تستدعي تجربة حزب الوسط الإسلامي (منذ عام 2001) جدلاً فكرياً وسياسياً معمّقاً. فالحزب الذي أصدر أخيراً سلسلة من الأدبيات - التي توضح منهاجه الإصلاحي- يقوم على أفكار ورؤى إسلامية ظلّ الكثير من المراقبين والباحثين والسياسيين يحثّ جماعة الإخوان على تبنيّها والقبول بها، لكنّ تجربة الحزب لم تلق لديهم الاهتمام نفسه ولا الدراسة المطلوبة، وكأنّ الحكم "المسبق" عليها هو الإعدام، ربما لأنّ الوسط السياسي والإعلامي أصبح لا يتصوّر قدرة أي فصيل أو حزب إسلامي جديد على انتزاع الشعبية من الإخوان، أو لأنّ الحزب لم يبدأ قوياً منذ البداية.
خرج حزب الوسط الإسلامي من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وتشكّلت أفكاره الأولية لدى تيار الحمائم في الجماعة، قبل أن ينضم إليه عدد من المستقلين، في حين استنكفت قيادات أخرى عن المشاركة في التجربة كعبدالله العكايلة وبسّام العموش وغيرهم. صحيح أنّ الخلاف بين مؤسسي الحزب وقيادة الإخوان (الوسطية) آنذاك كان السبب الرئيس في خروجهم، إلاّ أنّ الأفكار الرئيسة التي كان ينادي بها المؤسسون تشكل بحد ذاتها مدرسة فكرية في جماعة الإخوان عمادها التحول التام نحو العمل الحزبي السياسي، واعتماد النهج الديمقراطي والقبول بالتعددية السياسية والفكرية والحزبية، والتخلي عن عقلية "الشك" في العلاقة مع الدولة ومؤسساتها والاتجاه نحو العمل الوطني البرامجي الذي يصيب ويخطئ ويبتعد عن ادعاء العصمة في العمل أو امتلاك المشروع الوحيد للخلاص، مع التأكيد على مفهوم "المواطنة" كقيمة عليا حاكمة بين أفراد المجتمع وفي علاقتهم بالدولة، وهي كلها مبادئ وقضايا انعكست بوضوح في أدبيات الحزب وبرنامجه الإصلاحي فيما بعد.
على الرغم أنّ الشروط الموضوعية شكّلت محفّزاً حقيقياً لولادة الحزب وكانت نظرياً تؤكد على أهمية التجربة وضرورتها في الساحة الأردنية، إلاّ أنّ الواقع العملي كان مختلفاً من وجوه متعددة. ربما تمكّن الحزب من اكتساب قاعدة جيدة من الأعضاء مقارنة بأحزاب أخرى، تصل وفقاً لمسؤوليه إلى سبعمائة عضو، كما تمكّن الحزب من إيصال عدد من النواب وضم نواباً آخرين في المجلس، لكن ما لا ينكره قادة الحزب أنفسهم أنّه لم يتحوّل بعد إلى حالة سياسية وفكرية في الأردن، ولم يصل في خطابه إلى شرائح واسعة من الرأي العام.
يرى د. هايل عبدالحفيظ أنّ الحزب ما زال نخبوياً إلى الآن لأسباب رئيسة منها أنّ عدداً كبيراً من كوادر الحزب هم حديثو عهد بالعمل السياسي والشعبي، ولا يزالون في طور التنشئة والتدريب، وبحاجة إلى مزيد من الوقت كي يتمكنوا من الاحتكاك الفاعل والمؤثر في الشارع والتأثير عليه. ويضيف عبدالحفيظ إلى ذلك سبباً آخر أنّ الحزب الذي يتبنّى مرجعية إسلامية جاء بعد عقود من العمل الاجتماعي والسياسي المتواصل لجماعة الإخوان المسلمين، فليس من السهولة بمكان التنافس مع جماعة بوزن الإخوان على الجمهور الإسلامي في وقت قصير، فالمسألة تحتاج إلى وقت وجهد وعمل دؤوب.
أمّا مروان الفاعوري فيرى أنّ الخطاب السياسي الوسطي الذي يطرحه الحزب لا يلقى أذناً صاغية من الجماهير التي تعوّدت على "المعارضة الخطابية" التي تقدّم مواقف حادّة، في ظل الظروف السياسية الحالية التي تشكل سنداً متيناً للخطاب المتطرف والشعبوي، حتى وإن لم يكن ذلك الخطاب واقعياً. فعملية زحزحة الجماهير من حيّز التفكير العاطفي والرغائبي إلى البرنامج وخطة العمل والتصورات الواقعية بمثابة العملية الشاقة غير السهلة. ويخالف الفاعوري من يرون أنّ أحد أسباب فشل حزب الوسط دعم المؤسسات الرسمية له، فعلى النقيض من ذلك يرى الفاعوري أنّ الحزب غير مرحب به في الدوائر الرسمية، ولا يحظى بدعمٍ حقيقي، لأنّ الإسلام المعتدل يمتاز بالاستقلالية ويختلف مع مواقف الحكومة في العديد من الرؤى والمواقف.
تبدو الأسباب السابقة صحيحة، لكنّها تتطلب دراسة وتحليلاً أكثر تعمّقاً وإدراكاً، بخاصة إذا قارنّا هذه التجربة بتجربة حزب الوسط في مصر، الذي خرج من رحم الإخوان المصريين، قبل الوسط الأردني، والذي تبنّى خطاباً فكرياً معتدلاً وسياسياً أكثر حدة من وسط الأردن، لكنه عانى من المشكلة نفسها، أي النخبوية، بينما تبدو تجربة العدالة والتنمية في تركيا مختلفة تماماً، إذ استطاع الحزب أن يشكّل حالة شعبية خلال سنة، ويفوز بأغلبية كبيرة في الانتخابات النيابية، وكذلك تجربة العدالة والتنمية المغربي الذي يقترب الوسط الأردني كثيراً من طروحاته الفكرية والسياسية، بخاصة في رسم العلاقة مع "القصر" والنظام السياسي بوضوح، لكن العدالة المغربي استطاع أن يسرق شعبية العدالة والإحسان بسرعة، ومن المتوقع أن يكون هو الحزب الأقوى في الانتخابات البرلمانية القادمة القريبة.
قد يفسّر الفارق في التجارب السابقة (بين الحالتين الأردنية والمصرية من جهة والتركية والمغربية من جهة أخرى) بعاملين رئيسين:
الأول؛ وجود جماعة أخرى متماسكة وشعبية تشكل حاجزاً بين الأحزاب الجديدة وبين القبول أو حتى الإنصات الجماهيري لها، ففي الأردن ومصر كانت جماعة الإخوان بمثابة الحاجز بين الجماهير والتجربة الجديدة، بينما في تركيا حاز حزب العدالة والتنمية على رصيد واسع وكبير من الجمهور الإسلامي على أنقاض أحزاب الرفاه والفضيلة، أمّا في المغرب فالعدالة والتنمية هم الأقرب إلى جماعة الإخوان مع تطوير وتجديد كبير في خطابهم السياسي والفكري.
الثاني؛ مدى امتلاك التجارب الجديدة لقيادة كاريزمية أو شعبية على احتكاك مباشر بالعمل العام سابقاً. ففي الحالتين الأردنية والمصرية كانت أغلب القيادات المشكلة للحزب شبابية، من القيادات الوسيطة في جماعة الإخوان، لا يوجد لأغلبهم رصيد كبير في العمل العام الجماهيري. في المقابل فإنّ مؤسسي حزب العدالة والتنمية في تركيا اشتغلوا بالعمل العام، في مقدمتهم أردوغان الذي كان رئيساً لبلدية اسطنبول، كما يمتلك حزب العدالة المغربي عدداً من القيادات الفقهية والفكرية والسياسية المعروفة في الحياة السياسية والفكرية كسعد الدين عثماني ومحمد يتيم وأحمد الريسوني وغيرهم.
ثمة سبب آخر في الحالة الأردنية؛ فحزب الوسط أغلب قياداته ومؤسسيه من المجتمع الشرق أردني، الذي يضعف فيه وجود تيار الإسلام السياسي في الأصل، بينما تستحوذ جماعة الإخوان على الوسط الفلسطيني بامتياز، ما يجعل من اختراق الحزب للوسط الشعبي مسألة فيها قدرٌ أكبر من الصعوبة.
سواء كانت الأسباب الكامنة وراء عدم وصول تجربة الوسط إلى مداها موضوعية أم ذاتية، فإنّ السؤال يبدو ملحّاً حول مستقبل الحزب: فيما إذا كان قد قطع به الحبل وسدّت الآفاق أمامه ليدور في حلقة مفرغة أم أنّه كما يصر قادته لا يزال يخط طريقه ويبني أسس وجوده السياسي القادم، وأنه لا يزال في طور النمو والنضج والتطوير.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد