الأفعى لم تتقطع على أسواركِ 

 

لم أهرب من وجه حرب الخليج الثانية، وعدوانها الغشوم على بغداد شتاء 1991، رغم أنني كنت سنفوراً (سنة أولى جامعة)، وتذكرة سفر إلى عمان في جيبي، وهذا ليس شجاعة بي، بقدر ما هو عنفوان كان يهيج بدمي لا استطيع أن أفسره الآن، وثقة بمدينة عريقة وقعت بعشقها من أول شربة ماء.

قبل الحرب بليلة وقفنا على جسر الجمهورية، وأرخينا رؤوسنا لنقرأ نهر دجلة بصمت. كانت الأضواء الملونة تتلامع على صفحة الماء، كنجوم حطّت أرضاً، فقلت لأصدقائي: محال أن يقصفوا هذه المدينة، فهذه الغيوم ستغلفها بالحنين، وتخبئها عن عيونهم الشريرة: ولكنهم غدروا ودمروا وقتلوا.

وبعد سنة قرأنا لطيار أمريكي، بأنه بكى حين رأى بغداد، بكل هذا الجمال ملفعة بالغيم والأنوار، ولكن الحرب أمرته أن يلقي قنابله، ويعود ليحمل مثلها من جديد: تباً للأشرار.

رغم كل الذكرايات التي أكنزها عن أيام عشتها تحت القصف، إلا أن صدمة احتلال بغداد في مثل هذا اليوم 2003 لم تفارقني بعد وما زالت تتلبسني كجنية زرقاء، فحين بثت الفضائيات صورة لدبابة أمريكية تتهادى على جسر الجمهورية، صرخت: هذا محال.

وحين بثوا مشاهد جنود في ساحة الفردوس قلت: هذه ليست بغداد، فبغداد أعرفها لا تسلم نفسها، وحتى حين اجتاحها المغول تحت جنح خيانة وتواطؤ ابن العلقمي، فقد قاتلت وخاضت بدمها للركب، ولم تسقط بالمجان: بغداد نيسان ليست بغداد التي نعرف.

أهكذا كانت تجري الأشياء غير المعقولة دوماً؟؟، فكيف سرقوا أحلامنا، وصرنا بيادق شطرنج؟، كيف سحقوا نجومنا، في ذلك النهار النيساني البائس؟. أين الملايين، وأين سنوات الكلام العالي؟. وأين الموت الشريف المشرف؟، وأين الأفعى التي لم تتقطّع، أو تنتحر على أسوارك أيتها العصية؟.

ما زلنا نؤمن أن بغداد التي لا يليق بها أن تسقط أبداً، يليق بها أن تنهض من رمادها. فاين الحرية والسلام والمحبة والهدوء والتي وعدت بها بساطير الأمريكان؟. فيا أيها العراقيون، وحدكم قادرون على قلع شوك أيديكم، وحقن دمائكم، وبلسمة جراحكم، ليعود دجلة الخير ضاحكاً بأنواره من جديد.

الله بالخير يا بغداد.

 

بقلم رمزي الغزوي


المراجع

addustour.com

التصانيف

صحافة   رمزي الغزوي   جريدة الدستور