حكاية اثارت الرأي العام واحاديث الناس حتى غير المختصين بالاقتصاد، وهي صفقة بيع 96% من اسهم شركة أمنية للهواتف الخلوية الى شركة بحرينية بمبلغ وصل الى 415 مليون دولار، بينما تقاضت الحكومة رسوما لترخيص الشركة ومنحها حق العمل مبلغا لم يتجاوز 6 ملايين دولار.
وقبل ان ندخل في التفاصيل، فإن من حق شركة امنية ان ترفع قيمتها، وان تسوق نفسها وتبيع اسهمها، فهذا جزء من قانون السوق، لكن حكايتنا حول الادارة الحكومية للمقدرات، لأن منح الرخص واعطاء حق استغلال السوق جزء من مقدرات الدولة، تماما مثل الفوسفات الذي بعنا شركته بعدما خسر، رغم انه تراب، لكن يبدو أننا محترفون في صناعة الخسائر، كما هي الحال أيضا فيما يتعلق بملح الصافي، رغم ان الملح من الصعب ان يخسر الا في الاردن.
وزير الصناعة الاسبق واصف عازر قال لـ"الغد" قبل يومين ان "رسم ترخيص المشغل الثالث، شركة امنية، كان مجحفا وغير مدروس من الاساس"، وهذا هو بيت القصيد، لأنه يعبر عن المشكلة التي لا تنحصر في اسهم شركة امنية، بل في العقلية التي تبيع وتشتري وتمنح التراخيص "بشكل مجحف وغير مدروس". وهؤلاء المسؤولون لا يدفعون من جيوبهم، بل من مال الدولة واقتصادها وجوع الاردنيين.
ما بين 6 ملايين و415 مليون دولار عام من تشغيل الخدمة، وعامان من الترخيص، لكن الحكومات لا تحسن تقدير مقدرات الدولة، وتكرر هذا مع شركات اخرى، وسيتكرر في المستقبل، ربما لأن ادارة الموارد بعقلية تاجر البقالة الصغيرة! فالترخيص ليس اكثر من توقيع على الطلب؛ هكذا يفهمه البعض، ويعتقدون ان 6 ملايين مكسب كبير مقابل التوقيع. وكثيرة هي التواقيع التي فتحت على من حصلوا عليها ابواب الثراء والمال، وحرمت الدولة، في المقابل، من مقدرات هامة.
البعض يدير الاقتصاد بعقلية شعبية؛ ولهذا فنحن لا نمارس خصخصة بل بيعا، والفرق كبير. وحتى البيع نمارسه مثل اي تاجر صغير، وعلى قاعدة "بيعة الاستفتاح"، اي لحظة فتح الدكان، او بيعة آخر النهار، اي عند الاغلاق، وفي كلتا الحالتين يكون التاجر متسامحا ليّنا، حتى لو على حساب طعام اطفاله.
انها العقلية التي وقفت وراء المشروع الخاسر الفاشل الذي يسمى شركة المغنيسيا، والتي احالت الحكومة -بقرار ايجابي يسجل لها- ملفها الى النائب العام قبل ايام. ومن يقرأ تفاصيل القضية يكتشف ان اصل الامر قرارات ادارية بإنشاء الشركة والتسويق لها بأنها ستكون مصدر الخير، لنكتشف خسارتها وعدم قدرتها على العمل، والثمن ملايين او عشرات الملايين من اموال الضمان والبوتاس وجهات عديدة.
لم يكن الفساد يوما سرقة مال، او وضع مبلغ من الخزنة في الجيب، بل اصل الفساد قرار اداري او مالي. وحتى الحرامي الصغير فإنه لا يسرق الا اذا توفرت بيئة ادارية تحميه او تؤجل عقابه.
وكلما فتحنا قضية تذكرنا قضايا. فقد بعنا الكثير من المقدرات والشركات (ولا اسميه خصخصة). ومنحنا اراضي وتسهيلات لبعض من قيل انهم مستثمرون، فعادوا لبيع ارض الحكومة للناس لكن بأسعار خيالية. وجئنا بأموال الخصخصة وقلنا انها صندوق للاجيال، فأنفقنا مئات الملايين قبل ان تأتي الاجيال! وكل هذا ضمن معادلة واحدة: ادارة موارد الدولة، والنزاهة الادارية، والاحساس بالامانة تجاه كل توقيع يمنح رخصة او يبيع شركة او يعين مديرا او رئيس مجلس ادارة، او اخفاء ملف فساد والمماطلة في تقديمه إلى القضاء سنوات وسنوات.
قبل ان نتعب الناس في جدل حول قانون احزاب لا جمهور لها، او نقلق الدنيا بترف سياسي هنا او هناك، علينا ان نسأل عن ملح يخسر وتراب لا يربح، وتراخيص تباع بأسعار رمزية، وملفات قضايا مثل المغنيسيا توضع في الادراج سنوات طويلة قبل ان تذهب إلى القضاء.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة