قمة الدفلى
لم يكن العرب في ما مضى يستخدمون حطب شجر الدفلى في الطهي، أو التدفئة أو سمر الأعراس، لاعتقادهم بأن من يأكل شيئاً مطبوخا على نار الدفلى؛ ستصيبه الذلة والخنوع والمسكنة ولو بعد حين، حتى أن الكلب إذا صدف وأكل خبزاً مخبوزاً على ناره، فسيكون لا محالة كلبا عاقصاً، أي مذلولاً مرذولاً تجرؤ عليه صغار القطط وتبول في أذنيه، وتتلاعب في منخاره الفئران
| .
ورغم حقدي على الدفلى، وما يسببه من عقوص ومذلة لمن يأكل بناره، إلا أنني ما زلت كلما واتتني فرصة أيمم شطر وادي الحرامية إلى الغرب من مدينة كفرنجة، وألقي بنواظري إلى ذلك الوادي السحيق؛ لأندهش أكثر من مرة بشجر الدفلى الزاهي الذي يتلوى كثعبان حول مجرى الماء | . وقد التصق اسم الحرامية بهذا الوادي لأن اللصوص فيما مضى كانوا يلوذون به لاقتسام منهوباتهم، وكم أتوق أن ينال اسما آخر يليق ببهائه | | .
والدفلى رغم جماله وأنقة نواره إلا به مرارة قاتلة لا تطاق، وربما أن دخان ناره سامة، ولكن جذوعه المرنة المستقيمة كانت تستخدم في أسقف بيوت الطين، والمُعرّشات والأسرَّة، فخشبه يعمِّر طويلاً ولا يتِّرب(أي لا يتآكل ويصبح كالتراب هشاً)، فالسوس لا يدخله وينخره؛ لسميته العالية، وهناك استخدام عظيم للدفلى، فقد كانت تُوضع بعض من أوراقه وأغصانه بين أكياس القمح والأعلاف عند التخزين؛ للحمايةِ من التسوس والعث والديدان.
والناس لم تكن تستخدم حطب الدفلى، إلا إذا هدهم الجوع وأناخهم ولعن سنسفيلهم، وكانوا يتجرعون هذا الهوان والمرارة، لما هو أمر منه، ولهذا كانوا وما زالوا إذا أرادوا وصف أيام بالتعب والشقاء قالوا: أمرُّ من الدُّفلّى | | ، فالجوع الكافر وحده الذي لا يجبر الكثيرين على إيقاد الدفلى لخبز خبزهم وطعامهم فحسب، بل لربما يجعلهم يأكلون الدفلى بجذوعه وأوراقه وأزهاره، فليس أمر من شقاء الجوع وذله شيء | | .
في هذا الزمن المقلوب، لم يعد الحرامية الكبار يلوذون بواد سحيق لاقتسام نهائبهم، بل يرتقون ظهورا وأكتافاُ ورؤوساً لقمم شاهقة عياناً بياناً، صاروا فيها أكثر جرأة من لبؤة جائعة، فالحرمنة لم تعد في أعرافهم إلا شطارة وفهلوة وذكاء ومواربة، ومصيبتنا الكبرى معهم أن بطونهم كنار جهنم تريد المزيد، ويزدادون جشعا في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تمر بالناس، وحين تنظر إليهم من بعيد؛ تراهم مزهرين كأشجار الدفلى | .
بقلم رمزي الغزوي
المراجع
addustour.com
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور
|