بفمي أجبلُ بيتي
يعود طائر السنونو من هجرته البعيدة؛ يعود بكامل نشاطه وعنفوانه؛ ليملأنا بهجة تبقينا على قيد المحبة لسماء تزداد جمالاً حين يزركشها بطيرانه الرشيق المدهش. في كوانين الباردة يرحل السنونو إلى دافء بعيد، في هذا العالم المترامي، لكنه لا ينسى وطنه، فيعود أليه في كل ربيع، مسحوباً ببوصلة الحنين والشوق: فأهلاً بك أيها الطائر الحبيب
.
أحياناً يعود هذا الطائر إلى ذات العش الطيني، الذي بناه في العام السابق، في زوايا البيوت، أو فوق الشبابيك، أو في شق طوبة مكسورة في جدار. وأهلنا كانوا يتفاءلون به وبعشه وبإقتحامه بيوتنا، فهذه إشارة رخاء وخير ومحبة وسلام، وكانوا يقولون عن هذه الطيور، التي تشاركنا بيتنا، إنها مستجيرةٌ، أي تطلب الحماية والأمن، وعلينا أن نجيرها.
السنونو طائر أسود ذو بطن رمادية، بحجم العصفور الدوري، له طوق بني، طيرانه سريع ودقيق، وقد قرأت أنه قد ينفذ وهو بكل سرعته من حلقة قطرها ثلاث سنتمرات، وهو بخلاف غالبية العصافير يبني أعشاشها من التراب الصلصالي، الذي يتحوّل في فمها إلى طينٍ، بعد مزجه وعلكه وجبله بريقها (ما أغلى البيوت على أهلها | )، وثم تنضِّدهُ بطريقة هندسية بديعة على هيئة مخروط كروي رأسه للأسفل، ويكون متيناً كالصخر، وهذا ما يجعلها صالحا لعدة سنوات، يرثه الأبناء من الآباء | .
في كل نهاية إسبوع، أقضي ساعة في مراقبة السنونو، شقيق ألعاب طفولتنا، وهو يزين عتبات الغروب | ، بحركات بهلوانية تجعلك تسبّح الله، وإذا راقبته جيداً ستراه يطير منخفضاً من الأرض، وكأنه يقبِّل وجهها | ، وأحياناً يسقط ريشة من فمه، وهو في علو شاهق، ثم يتركها تسقط متمايلة في الهواء، ليلتقطها بمنقاره براشقة لاعب سيرك قبل أن تصل سطح الأرض.
كل الطيور كانت حلاً لشقاواتنا الطفولية، فكنا نغزو أعشاشها، ونقطف فراخها الآيلة للنضوج، إلا السنونو فلم نكُ نقرب له عشاً، ولا نرميه بحجر، ونتحسّر عليه حسرة أمّ ثكلى إذا ما وقع في فخنا، فكيف لا نخاف عليه؟ | ، وهو ربيبُ خيالاتنا الأولى، إذ المعلمةُ تقرأ علينا سورة الفيل بصوتها المحشرج؛ فنتعاطف مع طير الأبابيل، التي تجهدُ منقارها في رمي الكفّار بحجارةً من سجيل؛ لتحمي الكعبة، فأحببنا السنونو، ورسمنا له في قلوبنا تاجاً من الهيبة | .
هذا العالم، ورغم أنه يبدو في كثير من الأوقاتً معدنياً بارداً، لا سرور فيه، ولا بهجة ترتجى منه، إلا أني ما زلت أرى أن في بعض الأشياء الصغيرة، يكمن عسل السعادة ونسغها، فجرب أن ترقب سنونوات ينثرن رشاقتهن البهية على صفحة الغروب.
بقلم رمزي الغزوي
المراجع
addustour.com
التصانيف
صحافة رمزي الغزوي جريدة الدستور
|