حين شاهد الجميع طائرات سلاح الجو الاردني تهبط في مطار بيروت لتكون اول طائرات تكسر الحصار الجوي المفروض على لبنان الشقيق، تحمل المساعدات الاردنية للأشقاء ومستشفى ميدانيا لمعالجة ضحايا العدوان والهمجية الصهيونية، تذكرت ذلك الجدل "الوطني" الذي وصل الى حد الترف حين انشغلت الاوساط السياسية والاعلامية في مناقشة شعار الاردن اولا، وفكرة اولوية المصالح الوطنية، ووصل بعضنا في النقاش والترف الى خيال بأن الاردن مقبل على الانسلاخ من قضايا امته العربية والاسلامية، وان حديث الدولة عن همومها ومشكلاتها "تقوقع" على الذات.
طائرات الجيش الاردني ليست هي فقط من يذكرنا بانتمائنا كأردنيين الى امتنا؛ فمن يمشي في شوارع عمان ومدننا يلتقي بالاشقاء العراقيين وأبناء لبنان وفلسطين الذين وجدوا في الاردن وامنه وكرم اهله ملاذا للعمل والاقامة بعدما ابتلاهم الله بالاحتلال وضياع الامن والاستقرار. ربما يمارس بعضنا ترفا في الحوار والحديث، والبعض يمارس مناكفة، وكأن الاردن قيادة وشعبا ضعيف في بنيته السياسية وعروبته وانتمائه لأمته، وكأن الاصل في الدولة الاردنية انها محل ريبة وعليها في كل صباح ومساء ان تعلن انها دولة عربية وانها ملتزمة بقضايا الامة، وربما لاحظنا ان الخطاب الرسمي يمارس تأكيدا دائما لمواجهة التشكيك.
ليس فضلا ولا منة من اي شعب او حكومة عربية ان تقف مع اي شعب شقيق يواجه محنة، فهذا اقل الواجب، والدولة الاردنية بكل مكوناتها لا تستطيع الا ان تكون عربية ملتزمة بقضايا الامة، فنحن نتنفس هموم الامة بحكم الفطرة، فأطفالنا وكبارنا ورجالنا ونساؤنا يتحدثون في معاناة الشعبين اللبناني والفلسطيني حديث الهم الداخلي.
ولنتخيل مثلا ان دولة اخرى كان لها الفضل في كسر الحصار الجوي وارسال طائرات الى مطار بيروت، او دولة ترسل قواتها المسلحة لتأهيل مطار بيروت تمهيدا لإعادة التشغيل، فكيف ستكون الاحتفالية والاشادات! ما يهمنا ان يشعر الاردنيون انهم بأداء واجبهم نحو الاشقاء يمارسون عروبة حقيقية، وعلى الذين يمارسون هوايات ترف الجدال ان يعطوا الوقت ذاته ليقدروا للشعب الاردني انه ليس متهاونا في انتمائه لامته، وان هذا الانتماء ليس محل شك وريبة.
فالاردني الذي يخرج في الشارع يهتف ضد العدوان على لبنان وفلسطين يمارس واجبا، والام التي تذرف الدموع على اطفال لبنان تقوم بواجب، ولا يقل عنه ذلك الجندي الذي يقوم الان وتحت خطر الحرب والقصف بتقديم العلاج للأشقاء في لبنان والعراق وفلسطين، والدبلوماسية الاردنية التي تحاول ما أمكنها التخفيف من العدوان تنطلق من قيم عروبتها، والاعلام الاردني الذي يحمل هموم قضايا امته جزء من عروبة الدولة، ويضاف الى هذا كل فعل، بما فيه تقديم العون المادي عبر التبرعات التي لم يكن اخرها التليثون الذي نظمه التلفزيون تضامنا مع فلسطين والعراق، وكل اشكال التضامن اليومي في كل قرية ومدينة اردنية.
ما سبق ليس تأكيدا على التزامنا جميعا بقضايا الامة، لكنه نداء لنا جميعا وبخاصة في اوساط السياسة والاعلام والاحزاب ان نتوقف عن الترف الذي يصل بالبعض الى خلط متعمد او غير متعمد بين النقاش السياسي الى التشكيك الذي يتجاوز فكرة المعارضة الى المناكفة.
لا نسمع جدلا في مصر او السعودية او الكويت حول التزام الدولة بهويتها العربية، ولا نشهد نقاشا وتشكيكا وتصريحات وتوضيحات من حكومات تلك الدول لتقنع شعوبها بأنها عربية، ومنها دول حليفة لأميركا اكثر بكثير من الاردن، وتهتم بقضاياها الداخلية وتجعل لها الاولوية. فالمواطن المصري الشقيق لا يستبدل حبه لمصر بأي شيء، وشعاره: النيل والاهرامات والقاهرة ومصر أُمّ الدنيا، ومصر اولا دائما وأبدا، وهذا حقه بل امر يحسب له، لكن المصريين لم يشكك بعضهم في عروبة الدولة حتى بأولئك الذين يمارسون اعتزازا بالتاريخ الفرعوني.
"كلنا الاردن" او "الاردن اولا" يفترض ان لا يرافقها من البعض تشكيك في الهوية العربية للدولة. فكما ان من حقنا ممارسة النقد على اي سياسة خاطئة؛ فإن الحد الادنى هو ان نكون موضوعيين بحق أنفسنا.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة