من حيث المبدأ، فإن اصدار مدونة سلوك ترسي معايير اخلاقية ومبادئ اساسية للوظيفة العامة هو خطوة ايجابية، وتعطي نوعاً من التأطير لأخلاقيات وممارسات مطلوبة من موظفي القطاع العام.
لكن بعض ما ورد في هذه المدونة يطرح تساؤلات؛ ومن هذا ما يُلزم الموظف بالامتناع عن الاضراب عن العمل او تحريض الغير عليه، والامتناع عن تنظيم العرائض الجماعية المتعلقة بالوظيفة، او الاشتراك في تنظيم العرائض مهما كانت الاسباب والدوافع.
وإذا تجاوزنا اي قضية عامة، فهل ان قيام موظفي دائرة حكومية بكتابة عريضة الى المدير العام تطالبه بتوفير طاولات جديدة، او بزيادة عدد المغاسل ودورات المياه، أو إصلاح المصعد، سيخالف قواعد السلوك الوظيفي بحيث يستحق عليه الموظف العقوبة؟! هل ان كتابة عريضة او مذكرة بغض النظر عن موضوعها، يجعل الموظف مخالفا للسلوك؟!
وهنا لا نتحدث عن حالة، بل عن المنهجية التي تنظر اليها المدونة. فالقواعد الفضفاضة التي توجب عقوبات على الموظفين، يمكن ان تتحول الى سلاح بيد المسؤول، يستخدمه وفق فهمه وتفسيره.
ويلفت الانتباه ما ورد في المدونة حول تضارب المصالح؛ إذ يُلزم الموظف بالامتناع عن اي نشاط يؤدي الى تضارب ظاهري او حقيقي او محتمل بين مصالحه الشخصية وبين مهامه الوظيفية. فهذا امر جميل، لكننا نود ان تتجاوز المدونة في مساحتها صغار الموظفين الى كبارهم. فمهما تضاربت المصالح لدى موظف صغير، فإنه اقصاها خمسة دنانير او اكثر بقليل، لكن ماذا عن مصالح بمبالغ شاهقة؟! إذ كيف يكون لوزير، مثلا، مكتب استشارات، او شركة، او مكتب هندسي، ونضمن عدم تضارب المصالح، حتى لو كانت هذه المؤسسة الخاصة باسم زوجة المسؤول او ابنه، او كان شريكا بعقود خارجية؟ هنا يمكن الحديث عن تضارب مصالح يحتاج الى معالجة.
اما حكاية الهدايا والضيافة فهي مسألة تستحق التعميم باتجاه المواقع الكبرى. فالمشكلة ليست فقط في باكيت او "كروز" دخان يتلقاه موظف، بل أيضا في العمولات وتبادل المنافع في القضايا الهامة. وكيف نصنف "العزايم" التي يسبقها واسطة او تعيين، او تتبعها التعينات والامتيازات؟ فمن المهم ان يكون لدى صغار الموظفين ترفّع عن الهدايا والأعطيات، وأن يُحاسب كل متجاوز للقانون، لكن دورة النزاهة والتجرد يجب ان تكون كاملة، من اقصى الهرم الى ادناه، والا تحولت المدونات الى استقواء على الصغار وانصياع لنفوذ الكبار.
وهل نكون نحلم اذا ما طالبنا بمدونة سلوك لمجلس الوزراء ومجلسي النواب والاعيان؟ وان تضمن هذه المدونة انتهاء كل عمليات تولي المسؤولية لمن لا يستحقها؟ وان نصل الى مرحلة ننزع فيها من عقولنا، عند متابعة اي تشكيلة هيئة او مجموعة رئاسية، شجرة العائلة وعلاقات القربى والمصالح؟
لا نحمّل كل هذا لوزارة تطوير القطاع العام، فحدود صلاحياتها واضحة، ونقدر لوزيرها مثابرته وحرصه على الانجاز، لكن الدولة ليست فقط صغار الموظفين.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد سميح المعايطة