تدخل أكثر الأحزاب السياسية مخاضاً كبيراً في محاولة الاندماج والتوحد بعد أن فشلت جهودها في ممانعة إقرار قانون الأحزاب الجديد، الذي يرفع الحد الأدنى للعضوية إلى خمسمائة عضو.
المخاض الحزبي يتوازى مع تجدد الجدل بين الحكومة والأحزاب فيمن يتحمل مسؤولية ما وصلت إليه الحالة الحزبية من ترهل وضحالة بعد قرابة خمسة عشر عاماً على عودتها. الحكومة ترى أنّ القانون خطوة ضرورية وشرط رئيس لتجاوز الحالة الراهنة، إذ تتكاثر أحزاب لا تمثل وزناً حقيقياً.
فمعضلة الحكومة أنها تصطدم عندما تفكر في تغيير قانون الانتخابات الحالي - الذي يواجه انتقادات محلية وخارجية شديدة، ويمنع من تطوير الحياة السياسية- بتفرد الإسلاميين في السيطرة على الشارع وعجز الأحزاب الأخرى عن تشكيل منافس صلب وشرس، فوجد "المطبخ الرسمي" مفتاح الحل في قانون أحزاب جديد يعيد تشكيل التجربة الحزبية ويدفعها إلى مرحلة جديدة تتجاوز فيها مشهد "الدكاكين الصغيرة" التي تعرض بضاعة كاسدة وتعاني من أزمات مالية كبيرة وعجز على التمسك في أسباب البقاء والاستمرار. كما أوُحي لبعض الشخصيات السياسية المخضرمة والمعروفة بمواقفها المتشددة من الإسلاميين بضرورة القيام بدور مباشر ورئيس في تأسيس أحزاب "وسطية" كبيرة وقادرة على وضع حد لـ"التفرد الإسلامي".
من جهتها، الأحزاب السياسية، تحمّل الحكومات المتعاقبة مسؤولية ما آلت إليه هذه التجربة، فعقود الحياة العرفية التي منعت فيها الأحزاب المختلفة أتت على قدرتها في بناء القاعدة الجماهيرية وفي عمليات التعبئة والتجنيد، بينما ترك الحبل على الغارب للإسلاميين الذين تمكنوا من بناء شبكة عمل اجتماعي وإيجاد موارد هائلة توفر الدعم المالي وتسهل عملية التجنيد من خلال الجامعات والمدارس والجمعيات والمؤسسات الخيرية والمساجد وغيرها.
ويرى الحزبيون أنّ الحكومة - إلى الآن- تهمل الأحزاب وتساهم في تكريس حالة ثقافية شعبية تعزف عن المشاركة السياسية إما لبقاء ظلال الخوف من تجربة الصراع بين الأحزاب والحكومات في المراحل السابقة وإمّا للقناعة الشعبية بعدم جدوى التجربة الحزبية وضحالة مخرجاتها وعدم قدرتها في التأثير على المسار السياسي في سياقه الحالي، الذي يحصر عملية صنع القرار والارتقاء السياسي بقنوات "نخبوية" وجهوية مغلقة، لا تقوم على النسق السياسي المفتوح الذي يسمح للأحزاب في المساهمة بتكوين النخبة والطبقة السياسية النافذة في مؤسسات الدولة.
ويثير حزبيون معارضون سؤالاً استنكارياً جوهرياً فيما إذا كان هنالك قرار بمثابة فاصلة سياسية تليها عملية إصلاح بنيوية تؤدي إلى مخرجات واضحة في تداول السلطة ونمو الأحزاب وتوسع دائرة صنع القرار وإنهاء معادلة الاحتكار؟! 
على الرغم من وجاهة الأسباب والشروط الموضوعية السابقة؛ إلاّ أنه لا يمكن تجاهل العامل الأخطر الذاتي ألا وهو عجز الأحزاب وعدم قدرتها على تقديم نموذج جديد متطور يحقق اختراقا حقيقيا في مخاطبة المجتمع الأردني واستنطاق همومه والتعبير عن مصالحه وثقافته بخطاب يستند إلى لغة تخلق حالة من التواصل السياسي والاجتماعي، وهو الشرط الأول والرئيس لنجاح أية تجربة حزبية، لكنه الشرط الغائب تماماً عن التجربة الحزبية الحالية.
لقد طغت على تجربة ما يعرف بأحزاب الوسط، أمراض قاتلة، تمثلت بغلبة الاعتبارات الشخصية على الجانب السياسي والتنظيمي، وشعور أكثر القيادات المؤسسة لهذه الأحزاب أنّها بمثابة مشروع شخصي للوصول (إلى) أو البقاء (في) دائرة المنافسة على المنصب السياسي. ولم تخرج برامج هذه الأحزاب - في أكثر الأحيان- عن حالة التماهي مع السياسات الرسمية، أو الاختلاف الجزئي الصغير معها، دون محاولة بناء برامج تناقش هذه السياسات وتنقدها وتسعى إلى تطويرها، فيما إذا كان هنالك بالفعل اتفاق معها.
وضع الأحزاب اليسارية والقومية ليس أفضل حالاً، فقد تمسكت بخطاب فكري وسياسي عفا عليه الزمن وتجاوزته الأجيال الجديدة، ولم تعد هنالك إمكانية لتطبيقه. فلم تسع الأحزاب اليسارية إلى الاستفادة من التطور الأيديولوجي الذي مرّت به التجارب الحزبية المماثلة في أوروبا، كما حدث مع "اليسار الأوروبي" الذي أعاد إنتاج مقولاته الفكرية والسياسية بنيوياً، وأحدث قطيعة كبيرة مع المرحلة السابقة. كما لم تستفد الأحزاب القومية من التجارب السابقة ومن محصلة الفشل الذريع الذي مني به المشروع القومي العربي في صيغته الحالية- القديمة، ولم تتمكن من قراءة تجربة التكامل الأوروبي الناجحة التي تختلف في استراتيجيتها وأسسها عن التجربة العربية القائمة. فبقي القوميون على أحلام يدركون قبل غيرهم أنها غير عملية، وأن الجماهير لم تعد قادرة على تحملها بعد ما أصابها ممن رفعوا هذه الشعارات فأودوا بنا إلى المهالك.
على الطرف المقابل، وعلى الرغم من الشعبية الكاسحة التي تمتلكها جماعة "الإخوان"، فالجدل يطول ويتشعب ويتجذّر - بعيداً عن غرض هذا المقال- في دراسة أسباب وعوامل الصعود الإسلامي، لكن بلا شك لا يكمن وراء هذا النجاح وعي استثنائي (!) بقدر ما ترتبط المسألة باتجاه اجتماعي جارف نحو حالة من التدين، تستثمره الحركة الإسلامية في سياق فراغ سياسي هائل، ولا تجد الجماهير وسيلة لإعلان معارضتها واحتجاجها على الأوضاع الراهنة و"معاقبة الحكومات" سوى في التصويت للطرف المقابل، المتمثل حالياً بالحركة الإسلامية.
المتتبع لشعارات الإسلاميين وأدوات الحشد والتعبئة الجماهيرية التي يستخدمونها يدرك تماماً أنها تخاطب الغرائز والعواطف الدينية، بعيداً عن تقديم خطاب سياسي وفكري متقدم، كما هو عليه حال حزب العدالة والتنمية التركي أو حتى المغربي الذي قطع شوطاً أكبر في مسار التجديد والاجتهاد الفكري والفقهي.
الحزب السياسي ليس مشروعاً شخصياً ولا مذهباً فكرياً ولا ناديا للنخبة أو المتقاعدين من الحكومة ولا حركة احتجاج خطابية.. فأساس فكرة الحزب برنامج سياسي عملي، قابل للتطبيق تتبناه مجموعة من الأشخاص يمتكلون مهارات تساعدهم على الاتصال الجماهيري للوصول إلى البرلمان وتحقيق الأكثرية التي تمكن من تشكيل حكومة تطبق البرنامج، أو على الأقل تشكيل معارضة أقرب إلى "حكومة الظل" داخل البرلمان، تملك قراءة نقدية واقعية لسياسات الحكومة أو الحزب الحاكم. من الواضح تماماً أن مفهوم الحزب السياسي (هذا) ليس مطروحاً سواء عند مؤسسة صنع القرار أو المعارضة، بل ولا حتى في قانون الأحزاب الجديد!
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد