في أول الشهر يرفع الموظفون العاديون رؤوسهم ، وترى الفرحة على الوجوه ، والقامات عالية ، والهمم مرتفعة ، والضحك المتبادل يميز طبيعة العلاقات بين الناس ، ويسود الهدوء المنازل ، وتشعر بالود بين أفراد الأسرة الواحدة ، وترى الناس مستبشرين ، وقد امتلأوا كرامة وعزة ، ولهم عنفوان ، ثم تبدأ القامات تنحني ، وتسوء العلاقات يوما اثر يوم ، حتى اذا ما مضى أسبوع تصبح اصغر الأشياء كافية لاندلاع الشجارات التي تتخللها الشتائم ، وما لا يحمد عقباه ويكون سوء التفاهم العامل المشترك بين الجميع ، وتتسمم العلاقات البينية داخل الأسر ، ويقل الاحترام بين الأزواج ، والأطفال يشعرون بقسوة الآباء ، وهامات الرجال تنثني ويطأطئون رؤوسهم على قدر جيوبهم ، وما يبقى من الراتب ، وكلما حانت لحظة خلوالمحفظة من الأوراق النقدية ازداد منسوب الذل في الرؤوس ، واسودت الوجوه ، وبدأت تتغير الأشكال ، ويغادر الفرح الوجوه ، وتظلم الملامح ، وتقسو القسمات ، ويخف وقع الأقدام في الأسواق ، وتتشوه السعادة في القلوب الغضة ، وتتباطأ الأجساد المنهكة ، وتخف حدة الكلمات وتصبح باردة ، وتزداد الأنفس مرارة ، ثم ينثنون على الأرض يزحفون ، حتى إذا ما امتدت الأيدي إلى الجيران تطلب استدانة خمسة دنانير ، وقلت القدرة على تلبية الحاجات الأساسية ، وأصبح الخبز ضرورة قصوى في القرى اليابسة ، تبهت حياة الرجال ، وتصبح بلا قيمة ، ويتمنون لوأن الأرض تبتلعهم ، ويختفون من الدنيا ، ويتحسرون لو أن أمهاتهم لم تلدهم ، ففي تلك الأيام يزحفون على الأرض يتلهفون لرؤية نهاية الشهر ، ويدفعون الأيام ، والليالي دفعا ، وتمضي الساعات ثقيلة ، وتعيش الأسر تحت هم المصروف اليومي ، وخاصة إذا ضمت الأسرة طالبا جامعيا ، وتدبير الحال كيفما اتفق ، وتكون تلك اللحظات مليئة بالمرارة ، والناس فيها يتحاشى احدهم أن يرى الأخر ، لئلا يلمس الذل باديا على ملامحه ، فالجيبة تفضح صاحبها ، فهي التي ترفعه ، وهي التي تقربه من الأرض.

ويظل الموظف الأردني يزحف نحونهاية الشهر ، ولا احد يستطيع الاقتراب منه ، فكلمة واحدة تكفي لاندلاع شجار كبير ، حتى اذا ما انفك الضيق وطلع هلال الراتب في سماء صاحبه ، تنفرج الأسارير ، وتعود الأرجل تخبط في الأسواق ، وكأن كابوسا خرج من صدور الجميع ، وتعود الكرامة إلى مواقعها في رؤوس الرجال ، وتتحرك الحيوية في القلوب والنفوس ، وهكذا يمضون أيامهم ، والشهور ، يرفعون ويخفضون رؤوسهم ، ويعدون الأيام.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   رشاد أبو داوود   جريدة الدستور