خطورة الرسالة التي انعكست عن مجريات الشارع التونسي ، واتبعها الشارع المصري في غضون الفترة الأخيرة تكمن في أن مفادها أن المهمة ممكنة ، وهي في متناول الشعوب ، وقابلة للتحقق ، وقد كان يظن أن التغيير على هذا المستوى في المنطقة العربية يصل حد المستحيل ، وانه يحتاج إلى تحول تاريخي ، وذلك بالنظر إلى السطوة الأمنية العربية ، وعمق تجربتها في القمع ، والترويع ، غير أن أياما معدودات أمضاها الشعب الثائر في الشوارع كانت كافية فعليا كي تنهار كل هذه المنظومة بكلف بسيطة يستطيع أي مجتمع عربي تقديمها ، وقد تساوت قيمة الحياة والموت في كثير من الأقاليم العربية المحكومة بالقهر ، وقد كان يمكن للنظم ان تستمر لو لم تستفحل في تغييب الشعوب ، والإمعان في إذلالها ، وابتزازها في معيشتها ، والسطو على مقدراتها بلا رحمة.
والإنسان العربي بسيط في مطالبه ، ولم يكن يتطلع إلى كثير من حقوقه السيادية لو توفر له حق العيش الكريم ، إلا أن مجريات الأيام السابقات أعادت فتح الملف السياسي برمته ، وأعادت الشعوب اكتشاف قدرتها على التغيير ، وأخذت بمحاسبة جادة للمستويات السياسية الأولى في كثير من الدول العربية ، وتعرضت بعض النظم الحاكمة إلى سحب الشرعية ، وتم وضعها مباشرة تحت رحمة الشارع الغاضب. وقد تعدت المطالب اليوم إلى استرجاع السلطات ، وإيجاد آلية عادلة في تداولها ، وإعادة تكييف السلطة مع مصدر الشرعية الوحيد المتمثل بالشعب ، وإيقاف عجلة العملية السياسية السابقة التي أغلقت منافذ التعيير في الشارع ، وقوضت أحلام البسطاء فوق ترابهم الوطني ، وقد أزالت تحركات الشارع الهالة التي كانت تحيط بالنظم ، وبددت المخاوف التي كانت تحول بين الشعوب وحقوقها ، وهي التي كانت محكومة بانعدام الأمل.
ربما أن موجة تونس ستضرب في الأعماق العربية ، وقد تتمكن إذا لم يتم إيقافها في مصر ، من ابتلاع كثير من الأنظمة العربية التي تتسارع اليوم لاحتواء التطورات الخطيرة في الشارع ، وأصبح عامل الوقت ضرورة قصوى في تجنب الاسوأ الذي يطال القيادات ، وقد كانت تظن أنها بعيدة عن مثل هذه التحديات العميقة.
والجناح الشرقي للوطن العربي لن يكون بمأمن عما يدور رحاه في الجناح الغربي منه ، وعبثا ستروح المحاولات المحمومة لوقف هذا الامتداد في معظم أنحاء الوطن العربي المضطرب ، والذي لم تسلم منه دولة بحجم مصر ، وعمق تجربتها في القمع.
والدرس يحتاج إلى فهم عميق لمضامينه ، والتي تصل حد أن تفقد المؤسسات القدرة على تأطير الناس ، وإبقائهم ضمن الشكل القانوني للدولة ، وهو يتطرق إلى ضرورة أن تكون السلطة منبثقة عن الشارع ، وتعمل في خدمته ، وتعنى بتجميعه في العملية السياسية ، وعدم تركه مفتوحا على الفوضى والاضطراب ، وضرب الاستقرار ، والأمن. فمصلحة الأنظمة تسبق بمديات بعيدة مصالح الناس الذين لم يعد لديهم ما يفقدونه إلى درجة أن أقدم العشرات على حرق أنفسهم ، مستعدين للموت كمقدمة لتفجير غضب شعوبهم طلبا للحرية ، والحياة الكريمة.
وقد كان يمكن تجنب هذا الاسوأ لو أخذت خيارات الشعوب بعين الاعتبار ، وقدمت قيادات الواقع الاجتماعي والثقافي إلى مواقع التمثيل ، وكي تشكل السلطات مما كان يربط الناس بالعملية السياسية عوضا عن سياسة التغيب المعتمدة ، والاستفراد القاسي بالسلطة ، مما قتل المشاعر الوطنية ، وافقد الإنسان العربي طعم ترابه الوطني.
وهي نتيجة مؤسفة أن تكون نهاية عشرات السنوات في قمة هرم السلطة يتم ختمها بلعنات الشعوب المنتفضة التي خرجت للشوارع لتضع حدا لعقود من القهر ، والاستعباد ، وكأن الشعوب تحقق استقلالها اليوم ، وذلك بدلا من أن تشعر بالامتنان للقادة الذين للأسف افشلوا التنمية ، ولم يعملوا على الرقي بالشعوب وتحقيق مصالحها المترتبة على عملية الحكم.
لا شك أن عملية قيادة الشعوب تحتاج إلى حكمة ، ومهارة ، والى الاستماع اولا بأول إلى نبض الناس ، ومجاراتها في مطالبها ، ومصالحها ، وإخضاعها لآلية مستقرة في إفراز قياداتها المحبوبة لمقدمة العمل السياسي ، قبل أن يتم فقدها للمرة الأخيرة ، وهي حاضنة عملية الحكم ، ومستودع الشرعية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة رشاد أبو داوود جريدة الدستور