د. نعيم محمد عبد الغني
رحلة الإسراء والمعراج معجزة كبرى من معجزات مؤيدة للنبي صلى الله عليه وسلم، هذه
المعجزة قال عنها بعض الناس: إنها أتت تسرية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث إنه
لما أوذي في مكة وماتت زوجه خديجة وعمه عبد المطلب في عام الحزن أراد الله أن يسري
عنه بهذه الرحلة.
وهذا التفسير لا أراه؛ لأن الله تعالى جعل رحلة الإسراء والمعراج لأمر أهم من
التسرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ليس بدعا من الأنبياء الذين سبقوه، فكل
الأنبياء أوذوا وكذبوا وصبروا على ما كذبوا، ولم تكن لهم رحلة إسراء ولا معراج.
والبحث عن العلة في رحلة الإسراء والمعراج موجود في قوله تعالى: (سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)،
فالعلة إذا أن يري الله نبيه آيات قال عنها في سورة النجم: (لَقَدْ
رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى).
وهذه الآيات منها ما هو منصوص عليها في القرآن والسنة، ومنها ما نستطيع أن نستنبطه
من خلال قراءة السيرة النبوية قراءة واعية؛ لنعرف الملابسات والأحداث ولنستفيد منها
في واقعنا المعاصر.
والآيات الكبرى التي رآها النبي نصت عليها كتب السنة حيث رأى مشاهد من الثواب
والعقاب، وفرضت الصلاة...إلخ ما هو معروف مشهور، وتلك الغيبيات تحتاج إلى قوة إيمان
في التصديق خاصة مع بداية الدعوة التي لا ينفعها إلا الصادقون المصدقون، أما الذين
في قلوبهم مرض، ولا يؤمنون إيمانا راسخا، فإنهم سيبيعون القضية إذا وجدوا منها
مغرما ولم تؤت لهم مغنما، ومن ثم كانت رحلة الإسراء لتنقية الصف الإسلامي الذي لا
يهتم بالكم وإنما يهتم بالكيف، لا يريد قوالب بل يريد قلوبا.
ولعل قراءة في سورة الإسراء تثبت هذه النظرة؛ حيث نرى أن الله تعالى ذكر بني
إسرائيل وإفسادهم في الأرض إثر قوله تعالى لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير،
ويعلل لذلك صاحب الظلال بقوله: (بمناسبة
المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل، من
نكبة
وهلاك وتشريد مرتين؛ بسبب طغيانهم وإفسادهم).
ومع
وجاهة هذا القول إلا أني أرى أن الله تعالى لما جاء بهذه الرحلة لاختبار المؤمنين
وتصفيتهم أعقبها بذكر نموذجين من الصراع ضد الإسلام، الأول صراع أبدي مع اليهود قضى
الله بأن ينتهي للمسلمين، وصراع مع كفار مكة الذين آذوا الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وكذبوه وطلبوا منه الدلائل على صدقه ولم يؤمنوا؛ ليكونوا كبني إسرائيل في
تكذيبهم وعنادهم، فإذا كان بنو إسرائيل قد طلبوا أشياء مادية على صدق نبوة موسى
وعيسى؛ فطلب قوم موسى أن يجعل لهم إلاها يرونه، قائلين: (اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا
لَهُمْ آلِهَةٌ)
ورد عليهم سيدنا موسى قائلا: (إِنَّكُمْ
قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا
هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)،
وإذا كانت النصارى قد طلبت من عيسى عليه السلام أن يدعو الله لينزل عليهم مائدة من
السماء قائلين: (نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها
من الشاهدين) فإن قريشا شابهوا بني إسرائيل في مطالبهم، (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ
نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى
فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً
نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً).
إذا فسورة الإسراء عرضت لنموذجين متشابهين من العداء للإسلام إثر الحديث عن رحلة
الإسراء والمعراج، وهذا النموذجان يذكرهما القرآن في مواضع عدة؛ ليقرر أن
الذين يكذبون بالدين لو جاءتهم الآيات الكبرى الباهرات لن يؤمنوا، والله عز وجل قال
(إِنَّ
الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ).
وفي
مواجهة هذا العدو كان لا بد من إعداد صف إسلامي قوي متماسك؛ ومن ثم جاءت رحلة
الإسراء بآيات كبرى ليختبر الله إيمان الناس؛ فحدث كبير مثل هذا يحتاج إلى قلوب
مؤمنة كي تصدق وتتبع، فالله يريد الذين يؤمنون بالغيب، لا يريد أولئك الذي يتزعزع
إيمانهم من أول هبة ريح، وهذه سنة كونية لم تحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقط، بل حدثت مع من سبقه، فلقد ابتلي بنو إسرائيل عندما بعث لهم طالوت ملكا، فبداية
لم يرضوا به ملكا قائلين: (أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ)،
وهو اعتراض شبيه لاعتراض كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: (لَوْلا
نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
ثم بعد ذلك ابتلاهم الله بنهر؛ ليختبر قوة تحمل من اتبع نبي الله طالوت الذي قال: (إِنَّ
اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)
وكانت النتيجة أن شرب كثير منهم، ولكن الإسلام لا يغتر بالكم بل يعمل بالكيف، وهذا
ما يؤكده القرآن: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وانتصرت الفئة القليلة على جالوت وجنوده، وهذه سنة الله الكونية التي أراد أن
يجعلها آية من خلال رحلة الإسراء والمعراج التي أراد أن يصفي فيها أتباع الرسول،
فهو لا يريد إلا المصدقين بالنبي المؤمنين به، وأما المنافقون فإنهم لو خرجوا مع
المؤمنين الصادقين فلن يحملوا أعباء الدعوة، ولا تكاليف الجهاد، قال تعالى:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ
إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
وهذا ما قررته الحوادث التي أعقبت رحلة الإسراء، فانتصر المسلمون على قلة عددهم
وعتادهم على المشركين، وأقاموا دولة الإسلام في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئا؛
لأن الرجال الذين حملوا مشعل الدعوة هم الذين صدقوا الرسول عندما كانت الدعوة في
المهد، ولما عظم أمرها وقويت لم يغتروا بقوتها بل تواضعوا لله، فأعزهم الله.