تعيش الأمة العربية حالة أزمة مستحكمة، في تجليات لانهائية، بين مواطن أعمى، ومثقف مدجن، وصحافة مرتزقة، وفقيه غائب عن العصر، وسياسي كذاب أشر، وحاكم أطرش محاط بمافيا دموية فاسدة تزين له انهيار الأوضاع زخرفا أن الأمة في أحسن حال وراحة بال؟
وطبيعة هذه الأزمة ثقافية في عمقها، أحد أبعادها سياسي المظهر، وهي أزمة قديمة لها نقطة انطلاق، وتاريخ تطور، ومضاعفات ميدانية. تماما مثل مرض الجذام والطاعون والقراد وانفلونزا الخنازير!!
وتم هذا عبر ثلاث مفاصل تاريخية.

ثلاث مفاصل تاريخية:
أولها عندما صادر البيت الأموي الحياة الراشدية، وقام بتشكيل دولة بيزنطية، تصفي المعرضة الفكرية على يد جزارين من طراز الحجاج .
وثانيها بمصادرة التفكير والاجتهاد العقلي، وتأسيس رؤية أحادية دوغمائية متشددة لمعالجة الواقع، صادرت العقل والفن في ضربة مشؤومة.
وثالثة الأثافي التحول العالمي قبل خمسة قرون بارتياد المحيط على يد الصليبيين الفقراء، فامتلكوا البحار والثروة والعالم الجديد، فانقلب محيط الحضارة من المتوسط الى الاطلنطي
الغرب اليوم يملك ثمانية قروش من كل تسعة قروش ونصف من الثروة العالمية، وأربعة أنهار من كل ستة، وخمسة فدادين صالحة للزراعة من كل سبعة، ويمتلك ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربعة قارات وآلاف الجزر الغنية، وبنى أحفاد ريتشارد قلب الأسد بيتاً لهم في القمر ومحطة في المريخ، وكُتِب سفر الحضارة من الشمال الى اليمين بالدم، وكان يكتب معكوساً بالمداد.

حزمة أمراض ثقافية تبلغ العشرة!
الثقافة العربية الاسلامية تعاني من (حزمة) من الأمراض الثقافية تصل الى العشرة من نموذج:
(العقل الأسطوري) في تفسير الأحداث مثل أن الله كان متعكر المزاج في ربيع 2010 م فعاقب أهل آيسلندا بإرسال الدخان عليهم؟ ومنها (إجازة الغدر) وقصص السياسة تعج بمسلسلات التآمر، والأعياد الوطنية لاتزيد عن ذكريات تلك الانقلابات المريرة، التي كانت الحد الفاصل بين بطولة القائد الأبدي أو تحوله إلى خائن؟ ومرض (الآبائية) فالتاريخ يصبح مقلوباً الى الخلف، ولايمكن أن نتجاوز من سبقنا، ويبقى نظام الأبوة أزلي، ولانتجاوز نحن رحلة الطفولة العقلية والوصاية علينا، ويتوقف العلم عن حركة النمو التراكمية، و منها (احتقار العلم) وعدم تشكل تيار اجتماعي يثق بالعلم. وعدم تصور أن التشريع قابل للتطور، ومنها (تأليه القوة) والإيمان بأن السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب، وهو يفسر رسوخ الاستبداد عندنا الديني والسياسي بأشجار باسقة طلعها من أصل الجحيم، وبداية فترة حكم الصبيان، ونمو كائنات الهيبريد من الجملوكيات، مثل مزج جينات الفيران مع جينات البغال.


عندما تغيرالعالم
أوربا اليوم والاتجاه التنويري بدأ من مجموعة صغيرة من عشرات الأدمغة على ماذكرها صاحب كتاب ( عندما تغير العالم ) جاك بيرج، بل يمضي الفيلسوف البريطاني (راسل) في كتابه (النظرة العلمية) الى الزعم أن كل الحركة العقلية التنويرية لعالم الحداثة يرجع الفضل فيه الى مالايزيد عن مائة دماغ مثل (لوك وستيوارت وبيكون ونيتشة وكانت وديكارت) ويعتبر أهم واحد فيهم على الاطلاق (غاليلو) .
نحن حتى اليوم لم تتشكل عندنا خارطة التغيير الاجتماعي بمثلثها المعروف (الطاقم الفني أو كوادر العلماء والمفكرين ـ المؤسسات التي يبنيها أصحاب الأدمغةـ التمليح الاجتماعي بالفكر الذي تنظمه المؤسسات) .

سيطرة الفكر الخوارقي
ومن سيطرة الفكر (الاسطوري الخارقي الخلاب) وعدم اعتماد (العقل السنني) فمع كل حذف وتهميش القرآن لفكرة المعجزة، والشروع ببناء العقل الاستدلالي؛ فإن عقلنا (الجمعي( مشبع بفكرة الللاسننية، حتى أن بعض كتب السيرة حولت الحياة المبكرة لولادة الاسلام الى (كرونولوجيا) للغزوات والمعجزات، مع كل تأكيد القرآن على أن هذا ليس اتجاهه.

تجديد التفكير
ذكر الفيلسوف ( إقبال ) في كتابه ( تجديد الفكر الديني ) أن الرسول ص ينتسب تاريخياً الى العالم القديم، ولكن روح رسالته تحرر وتنهي وتنفد وتوجه الى العالم الجديد، ومن روح القرآن تم التخلص من الفكر (الصوري الارسططالي) الذي حجر الفكر في مربع التفكير النظري (والطريقة الاستنباطية القاصرة DEDUCTION) ليتحرر الفكر ويبدأ من طريقة القرآن (أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت) في الشروع بتأسيس أمرين على غاية الأهمية: الطريقة (الاستقرائية INDUCTION) في التفكيي والبدء بالروح (التجريبية) النقدية، التي مارس قسماً منها بطريقة مثيرة ذو العقل الجبار (ابراهيم بن سيار النظام) من العصرالعباسي.
الطريقة (الاستنباطية) والطريقة (الاستقرائية INDUCTION)
الطريقة الاستنباطية يمثلها مواجهة قصة (أسنان الحصان) والعجز في الفلسفة البيزنطية، فيمكن للنقاش أن يستمر بدون نهاية وبدون حل، كم عدد أسنان الحصان؟ طالما قام على التجريد النظري، ولكن ميزة الطريقة الاستقرائية أن يقوم الانسان بكل بساطة ليفتح فم الحصان ويعدّ كم هي؟

جدلية النص والواقع
وظن الاستغناء بالنص عن الواقع، في رؤية تحرم من الادراك الفراغي، في جدلية النص و(الواقع) و (التاريخ) ولقد كتبت بحثاً بإسهاب في كتابي (في النقد الذاتي) حول هذا الموضوع، وكيف أن مفاصل الفكر تجمدت عندنا منذ أمد بعيد، ولعل أكبر كارثتين حلت بالعالم الاسلامي كما ذكرت هما، المصاردة السياسية القديمة، ثم تعطيل العقل وانطفاء نوره منذ الفترة العباسية، ولذلك فإن مرضنا قديم ومفاصلنا ميبسة مشوهة منذ قرون، ولانتوقع (حراكية) بسرعة واختصار للزمن، كما يحدث للمريض الذي دخل في غيبوبة دماغ لفترة طويلة فعندما يرجع للوعي لن تسعفه مفاصله الميبسة على الحركة، بفعل آلية ( اختلال ) وصلات ( فيوزات ) وتوصيلات ( الخريطة الذهنية ) في العقل الجمعي العربي الحالي ومعضلة تشكله الطويلة، وهذا لايدعو لليأس بل لتأمل المشكلة بجدية نحو الاقلاع في عملية التغيير الجراحية الفكرية .

مكان الحفر المعرفي
ومن مسلسل (حزمة الأمراض الثقافية العشرة) تهميش المرأة ومصادرة إرادتها ومشاركتها في الحياة، وزحلقتها الى شريحة (دونية) مسحوقة. كذلك تشرب الثقافة بباكتريا العنف وكل مضاعفاتها المرضية، وأزمة الديموقراطية والشورى، والعجز عن حل إشكالية نقل السلطة السلمي، وفهم التشريع بدون آليات (علله) الخفية، مفصولاً عن إحداثيات التاريخ ومغزى الحكمة.
من الضروري تحديد مكان (الحفر المعرفي) في جيولوجيا (الثقافة) وليس مستنقع السياسة؛ فالمشكلة ثقافية أحد تجلياتها العجز السياسي، والسياسي هو حفيد المثقف، لذا لابد من تفكيك الثقافة وآليات عملها اليومي.

طبقات التاريخ والحضارة
هناك تراكب لثلاث طبقات في مجتمع الحضارة، أعلاها التكنولوجيا وإفراز الاشياء، التي تقوم بدروها على بنية تحتية من قاعدة علمية، وهي بدورها لاتنبت وتستقر بدون مناخ عقلي خاص، فالحضارة تولد بمناخ نفسي عقلي متميز، من تفاعل الانسان مع التراب والوقت، وراهن القرآن ليس على الإنجاز العلمي؛ بل على تغيير المناخ العقلي ؛ لإنه سيقود الى تأسيس القاعدة العلمية، وإفراز أشياءها التكنولوجية لاحقاً.
إذا بنينا مثلث (المناخ الفكري ـ القاعدة العلمية ـ الانتاج التكنولوجي) نكون قد حفرنا في المكان المناسب من أركيولوجيا المعرفة؛ فوصلنا الى الطبقة الأساسية الكتيمة العميقة لمياهها الجوفية، وذهبها الأسود اللجين.
إن تأسيس قاعدة ( المناخ الفكري) يشبه طاولة بأربعة قوائم يستوي عليها مسطح الفكر ؛ فلايمكن الانطلاق لبناء (المناخ العقلي) والتحرر من (حزمة الأمراض الثقافية) بدون تدشين قواعد منهج فكري رباعي المفاصل:

المناخ الفكري الحر ذو أربع مفاصل
1 ـ أولاً: لاخوف من التفكير .....
فالفكر يسيل بنظام ضبط داخلي وقوانين ذاتية، وأفضل ظروف العمل للدماغ أن يكون مرتخياً بلاعنف وإرهاب وضغط، فالفكر لايعمل بقوانين الفيزياء، مثل ضرب المسمار بالمطرقة.
التفكير في كل شيء بزاوية سقراطية منفرجة؛ فأمام كل سؤال تنفتح فوهة جواب تفرز سؤالاً جديداً أكثر تعقيداً، وأعمق منالاً، في طبقات تراتبية، وحلقات وصل، عبر ميكانيزم مترابط داخلي، في بناء فكري ومنهج محكم، يتم فيها تدشين ( تراكم) معرفي متقدم، واختراقات فضائية معرفية واكتشاف جهلنا بغير حدود، يرسخ فيه يقين بالأرض الجديدة، التي اكتشفناها وتبرز قاراتها بدون توقف.
2 ـ ثانياً: لاحدود للبحث العلمي؛ فالعلم لايعرف التوقف أو الاستقالة، التعب أو الاستحالة، الحدود أو التابو، بما فيها ثلاثية (الجنس ـ الدين ـ السياسة).
3 ـ ثالثاً: لاهرطقة للمختلف ... على قاعدة أن نوجد الملغي لانلغي الموجود. كل من يختلف معنا يحترم في إطار التعددية؛ فالكون مركب على الزوجية والتعددية والاختلاف والتباين ولذلك خلقهم.
4 ـ رابعاً: لايستباح دم الانسان من أجل رأيه، مهما كان هذا الرأي، في إطار السعي لتأسيس وإيجاد مجتمع اللا إكراه في الدين.
يجب أن ننشد البحث عن الحقيقة ومعها الخطأ لزام لنا؛ لإن الحقيقة المطلقة لله وحده، وطالما كان رأي الانسان بحثاً وتدجيناً من البيئة فلايفيد الحقيقة النهائية؛ فلايسفح دمه من أجل رأيه.
والمبدأ الرابع الخطير يقود الى اهمية الاتفاق على بناء خطوط حمر، يتفاهم عليها أطراف الحوار الاجتماعي، وهذا يعني تدشين المجتمع السلمي، فيحييد العنف.
سئل برتراند راسل يوما هل أنت مستعد أن تموت من أجل أفكارك؟ قال: لا؟ قالوا له لماذا؟ قال: لنني قد أكون مخطئا في آرائي، فأموت غلطانا أحمقا بدون القدرة على تصحيح أفكاري؟

تعميم اللقاح السلمي:
لاتعيش الديموقراطية مع الإرهاب، ولاالعنف مع الفكر، فأول لقاح يجب تعميمه في المجتمع وكسب الأنصار له وتجنيد الاتباع حوله هو نشر (اللقاح السلمي).
والفكر السلمي لايعني تقعيد فلسفة السلام العربي ـ الاسرائيلي، ولايعني تعطيل الجهاد، وليس طوباوياً مثالياً غير واقعي.
تحييد العنف يرى أن التناقض الأكبر هو الصراع العربي ـ العربي، ظهر ذلك واضحا في أكثر من مناسبة، في حرب الخليج الأخيرة فنسينا إسرائيل وبدأ صدام في ضرب تل أبيب والرياض بنفس الصواريخ؟ وظهر أوضح في سد يأجوج ومأجوج المصري لتطويق غزة، بجدار أعظم من جدار ذي القرنين من زبر الحديد، فظهر أن فرعون مصر ألعن من إسرائيل وإسرافيل وعزرائيل؟
وهذا يقول أن وجود اسرائيل هو نتيجة هذا التناقض الكبير وأن الصراع الصهيوني العربي جانبي وهامشي، وأن التطاحن العربي العربي هو التناقض الجوهري والأساسي والأول والأخير لحل أزمة الأمة.
ولوخسف الله الأرض باسرائيل فستبقى أزمة الثقافة العربية، وفي اللحظة التي يتعافى البدن العربي من الحمى الداخلية؛ فإن جراثيم اسرائيل ستختفي، وتعود فلسطين الى الأمة كما أعادت بريطانيا (هونغ كونج) الى الصين بعد 150 سنة، وتحييد العنف لايعني إلغاء الجهاد؛ بسبب ضبابية هذا المفهوم وعدم معرفة (شروطه) و (وظيفته) وما حدث ويحدث في الجزائر وأفغانستان، والعراق ونهراون، والصومال وقرقيزيا والسودان ليس جهاداً في سبيل الله، بل هو فتنة وصورة عصرية للصراع (الخارجي ـ الأموي) القديم، والفكر السلامي ليس طوباوياً بسبب غموض آلية اللاعنف وكيفية عملها السيكولوجي.
تحييد العنف شرط أساسي للبناء الفكري في المجتمع وبناء الديموقراطية وترسيخ روح الشورى. والعنف لايحل مشكلة بل يولد عنفاً جديداً، لذا لابد من تبني المنهج السلامي من طرف واحد، لكسر حلقة العنف المريعة، وإبطال دائرتها المجنونة. العواطف تولد مثيلاتها والحب يولد الحب، والسلام يأتي بالسلام، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
والجهاد هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الانسان أينما كان ومهما دان، ولم يكن لنشر الاسلام، كما حرر ذلك ابن تيمية قديماً، وجاءت في هذا عشرات الآيات، ومايحدث ضمن وداخل المجتمع العربي في كل مكان هو فتنة ذات ذيول خطيرة يجب أن نساهم في إطفاء حرائقها بالفكر الواعي. فليس من بلد إلا في مصيبة، من عسكرة المجتمع ورسوخ الجملوكيات وسيطرة الأوغاد الانقلابيين على مصائر الأمور فإن لم يكن فالملالي الذين ينتسبون لعصر فات وقته وانقضى رمسه.
ومثلا فكان يمكن الخروج من الأزمة الجزائرية وكل أزمة مشابهة بأسلوب تبني تكتيك (العصيان المشروع) بشكل محدد وواضح بوعي وبإصرار، كما فعل الأتراك مع سفن السلام لفك حصار غزة، حتى لو أدى الى دخول السجن أو الموت والقتل فهي الشهادة حينها.. وهي يقين الحرية
سأل الفيلسوف الرواقي تلميذه وهو يسأله عن الحرية؟
ابكتيتوس: هل يستطيع أحد أن يجعلك أن تصدق ماليس بصدق
التلميذ: لا .. لايستطيع
ابكتيتوس: هل يستطيع أحد أن يكرهك على فعل ما تريد؟
التلميذ: نعم إذا هددني بالموت أو الحبس؟
ابكتيتوس: فإذا لم تخش من الحبس والموت هل يستطيع؟
التلميذ: لا
ابكتيتوس: أنت حينها حر..


المراجع

elaph.com

التصانيف

أدب   العلوم الاجتماعية   مقالات