مكتسبات كثيرة حققتها القوى السياسية والنقابية إلى هذه اللحظة في سياق هذه المرحلة المدعومة بتداعيات إقليمية خطرة، وهي التي كانت إلى البارحة مجرد أحلام ترد فقط في خيال منتسبيها، ولعل اقلها إمكانية مقابلة رئيس الوزراء التي لم تكن متاحة للكثيرين ممن هم قيادات الصف الأول في مراحل سابقة حتى وصلنا إلى درجة عدم القبول بالجلوس معه، وقد أزيل المنع عن كثير من الأسماء التي تحظى اليوم بالجلوس على الطاولة مع المستوى السياسي الأول في البلاد، وحققت القوى السياسية إلى اللحظة إشراكها في مشاورات تشكيل الحكومات، وعرضت المشاركة عليها بنسبة عالية، ودعيت إلى المشاركة في لجنة الحوار التي تمهد الطريق لإجراء الإصلاحات السياسية بتوافق وطني إلا أنها قابلت ذلك بالرفض، والبعض المشارك سرعان ما بادر إلى الانسحاب، وكأن مشاركته جريمة يريد أن يتحلل منها، وشهدت المرحلة دخول أخبار ونشاطات القوى السياسية إلى نشرة الإخبار التي تذاع في التلفزيون الرسمي، وعودة سياسيها إلى المشاركة في البرامج الحوارية، والندوات.
وقد أزيلت الهالة عن رموز سيادية، ومؤسسات أمنية تعرضت للنقد العلني دون مساءلة، وشهدت المرحلة ارتفاع سقف النقد، وتم إسقاط قانون الاجتماعات العامة التقليدي، وغدت القوى السياسية قادرة على القيام بنشاطاتها بحرية مطلقة دون اذن الحاكم الإداري حتى وصلت إلى دوار الداخلية، وتناسلت التنظيمات دون ترخيص للعمل على الساحة الأردنية، وراحت تصدر بياناتها تباعا بسقوف غير معهودة، وتمكن المعلمون من انتزاع نقابة تمثلهم بشروطها القانونية، وهنالك توجهات لتحقيق مطالب أخرى للقوى الحزبية تتمثل بقانون انتخاب يفيد في زيادة نسبة تمثيلها في المجلس النيابي في مدة أقصاها ثلاثة أشهر، وتوجهات معلنة بانتخاب أمين عمان، وهنالك ترتيبات للوصول إلى حكومة منتخبة من قبل الأغلبية البرلمانية.
وقد تحلل الإعلام من الضغوط، وبلغ من الانفتاح درجات لم يسبق له أن وصل إليها، وتم التشديد على زيادة فعالية هيئات مكافحة الفساد، وحصلت على دعم لا محدود لإنجاح أعمالها التي قد تقابل بتحقيق نتائج مبهرة كما يظهر بدعم ملكي مباشر.
غير أن كل ذلك ما يزال غير مقنع بالنسبة لبعض القوى الحزبية، والتي ما تزال تستخدم المظاهرات والاعتصامات، والبيانات شديدة اللهجة، وحتى التلويح بالعصيان المدني، للتدليل على موقفها الرافض لطبيعة الاصلاحات التي تجري ، وهو ما يطرح السؤال حول أسباب استمرار حالة التصعيد لدى هذه القوى الحزبية، ومقابلة ما يتحقق من مطالبها على المستوى الرسمي بمزيد من التشنج والمبالغة في الرفض، ولعل إعادة قراءة ما يجري على الساحة المحلية يعطي التصور حول حقيقة ما يجري فلعل حالة التنافس المفروضة بين الافرقاء على رفع السقف السياسي، وخصوصا مع دخول قوى جديدة على خط المعارضة أدى إلى شحن القوى التقليدية باتجاه التصعيد حتى لا تبدو طروحاتها متواضعة بالمقارنة مع ما يتم طرحة من جهة القوى المبتدئة، والتي تجاوزت في مطالبها كل السقوف، وهكذا أصبح امن الوطن واستقراره رهنا بحالة التنافس والمبالغة في رفع السقف السياسي، والقفز عن معطيات الحياة السياسية المعتدلة في الأردن، والتي لا يمكن مقارنتها بغيرها من أنظمة المنطقة التي أصبحت في حالة مواجهة مع شعوبها على خلفية الظلم التاريخي الذي تعرضت له.
ما يجري على الساحة الأردنية من تصعيد ليس مدعوما بتطلعات شعبية، وإنما هو حالة تنافس خاصة بين القوى السياسية والشبابية، والهيئات المستجدة في الساحة، ولا يفيد في تطوير الحياة العامة بقدر ما يؤشر على عدم القدرة على التعامل مع دقة الظروف بروح المسؤولية، ويفقد الإصلاحات التي تتم، أو في طريقها إلى التحقق أهميتها، ويجعل التشنج سيد الموقف بدلا من التوصل إلى توافقات وطنية حول الإصلاح بما يخدم الوطن، ومسيرته السياسية، وتطلعات شعبه الطيب.
ولن تستطيع هذه القوى استنساخ الوضع الإقليمي، وتكريسه في الساحة الأردنية إلا إذا كانت خالية الوفاض في فهم طبيعة الشعب الأردني، ونظامه السياسي الذي يحظى بإجماع الغالبية العظمى من مواطنيه، رغم المطالبات المستمرة بوقف آفة الفساد، وتحسين مستوى المعيشة، وأداء المؤسسات العامة، وهو ما يفقدها القدرة على تمثيله الذي لن يحدث سوى بإرادته الحرة، وستفشل كل وسائل الإعلام في تنصيبها متحدثة باسمه إلا إذا كان ذلك انعكاسا لرغبة شعبية حقيقية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة رشاد أبو داوود جريدة الدستور