لم يكن لجوء الرئيس برويز مشرّف إلى أحد أبرز خصومه السياسيين، رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو، إلاّ على قاعدة "إذا لم يكن إلاّ الأسنة مركباً..". إذ بدت الشهور الأخيرة مؤذنة بحالة من الانهيار الخطر في الوضع الداخلي في ضوء الصراع المتصاعد بين مشرّف والحركات الإسلامية، على مختلف ألوانها وأفكارها، سواء كانت الجماعة الإسلامية أو جمعية العلماء أو المجموعات "الجهادية"، المتحالفة مع القاعدة.
لكن إلى أي مدى يمكن أن تقدّم بوتو "طوق النجاة" إلى مشرّف؟..
بالعودة إلى مصادر القوة السياسية فإنّ حزب بوتو، أي "حزب الشعب" يشكل القوة الثانية في البرلمان الباكستاني بعد حزب الرابطة الإسلامية(الفرع الذي يقوده مشرّف)، فيما يأتي مجلس العمل الإسلامي الموحد في المرتبة الثالثة،وهو مكون من الجماعات والأحزاب الإسلامية الرئيسة، ثم حزب الرابطة الإسلامية الذي يقوده نواز شريف.فوفقاً لهذه "الحسبة" فإنّ مشرّف من خلال صفقته مع بوتو، أيّا كانت مضامين هذه الصفقة،كسب حليفاً سياسياً معتبراً،في مواجهة تفجر الوضع الداخلي.لكنّ هذا لا يعني بالضرورة انفراج الأزمة الكبيرة التي يعاني منها نظامه.
الملاحظة الرئيسة أنّ توزيع القوى السياسية داخل البرلمان الباكستاني ليس ميزاناً دقيقاً لأحجام القوى على ارض الواقع من ناحية،ولا طبيعة التركيبة السياسية والديمغرافية في البلاد من ناحية أخرى.فعلى الصعيد السياسي الداخلي هنالك أزمة حقيقية لمشرف لا تقف عند حدود الاشتباك السياسي العنيف مع الإسلاميين السياسيين،ولا مع السياسيين العلمانيين المعارضين،أو شخصيات كالقاضي المعروف امتياز محمد،إنما مع البنية الاجتماعية الباكستانية التي يتغلغل فيها الدين،وتشكل الجماعات الإسلامية أحد تجلياتها،فيما تشكل المدارس الدينية(التي اشتبك معها مشرف) تجلياً آخر.وقد لعبت النهاية المأساوية لأزمة المسجد الأحمر دوراً كبيراً في إبراز مشرّف بصورة إعلامية وسياسية سلبية،تتعارض مع المزاج الاجتماعي- الديني بصورة عامة.
تنعكس الأزمة السياسية بصورة أكبر وأشد قسوة في اقليمي مناطق القبائل الشمالية وبلوشستان إذ تتعانق الأزمة السياسية مع أزمة التوزيع والعدالة والشعور بالتهميش وغياب الدولة، لصالح المنظمات والمجموعات المحلية،التي غالباً ما تكون ذات طبيعة إسلامية، بحيث تُبرِز النتائج الانتخابية في هذين الإقليمين الكبيرين والفقيرين انتشاراً وتغلغلاً ملحوظاً للجماعات الإسلامية.
فإقليم بلوشستان يمتد على الحدود الباكستانية- الإيرانية،وهو أكبر الأقاليم الجغرافية الباكستانية، على الرغم من قلة الكثافة السكانية فيه، وتمثل مدينة كويتا عاصمة هذا الإقليم، وتشكل القبائل البلوشية نسبة 54.7% من سكان الإقليم، بينما القبائل البشتونية تمثل نسبة 29%. وعلى الرغم من الغنى الكبير في الموارد الطبيعية في الإقليم إذ يزود باكستان بـ40% من احتياجاتها من الطاقة،إلاّ أنّ سكان الإقليم يعانون من نسبة بطالة تصل –وفقاً للإحصائيات الرسمية 12.5%، ويصل حجم الفقر ضعف نسبته في إقليم البنجاب.
على الطرف المقابل،يعاني إقليم المناطق الشمالية الغربية(بمناطقه السبع) ظروفاً اقتصادية متدهورة. فمعدل الدخل الفردي في تلك المناطق يصل إلى500$ دولار سنوياًً فقط،بينما نسبة الفقر تقارب60%، يتوازى هذا الوضع المتردي مع عدم وجود بنية تحتية متينة والمعاناة الكبيرة من نقص الخدمات الأساسية في التعليم والصحة، وغيرها ما يجعل جزءاً كبيراً من دخل المواطنين الشحيح يذهب باتجاه تأمين الخدمات الأساسية المفتقدة في الإدارة الحكومية، حيث يصل عدد المستشفيات إلى أربعين مستشفى تخدم 3.1 مليون نسمة، بنسبة تصل إلى مستشفى واحد لكل 60762. إذ يعتمد السكان على الزراعة بصورة رئيسة في اقتصادياتهم، في حين تنتشر تجارة السلاح والمخدرات في تلك المناطق.كما يعاني سكان المنطقة من أمية منتشرة وانخفاض في مستوى التعليم والثقافة.
ويشير تقرير لمجموعة الأزمات الدولية إلى أنّ صعود العمليات المسلحة وانتشار حالة التطرف في تلك المناطق هما نتاج "فقر الحكم الرشيد الذي يتضافر مع تاريخ طويل من الدعم الرسمي للمنظمات الإسلامية البشتونية"، بالإضافة إلى وجود قوات الاحتلال الغربي في أفغانستان المجاورة وغياب الاهتمام الدولي في تلك المناطق ما يجعل من الصعوبة على الجيش الباكستاني مواجهة هذه الحال فقط من خلال العمليات العسكرية.
وتكمن خصوصية هذين الإقليمين في علاقتهما بـ"الجهاديين" بأسباب متعددة أبرزها الأزمة مع المركز وقوة الحركات الانفصالية فيهما والشعور بالغضب والإحباط السياسي لموقف الحكومة المركزية من الحرب الأفغانية،مع وجود نسبة كبيرة من البشتون يشاطرون إخوانهم البشتون الأفغان السمات العرقية والاجتماعية والمصالح السياسية والدينية،ما خلق حالة من التلاحم بين القبائل والجهاديين مما يجعل من مهمة ضبط الأمن والقضاء على وجود القاعدة وحلفائها في تلك المناطق مهمة في غاية الصعوبة على المدى القريب مع وجود تضاريس جغرافية مناسبة تماماً لحرب العصابات وعملية الكر والفر التي تتخذها الجماعات الجهادية في مواجهة كلٍّ من السلطات الباكستانية والأفغانية.
لقد وصل الأمر في خروج هذه الأقاليم،وبالتحديد إقليم المناطق الشمالية،على سلطة الدولة وعن نطاق السيطرة أنّ المعارك العسكرية الشرسة التي وقعت بين الجيش الباكستاني وبين متعاطفين وأفراد من طالبان والقاعدة داخل هذه المناطق لم تنتهِ بسيطرة الجيش أو انتصاره عسكرياً، بل أدّت إلى توقيع اتفاقيتين مع القيادات القبلية في كلٍّ من وزيرستان الشمالية والجنوبية،تتضمنان عدم تدخل الجيش مقابل أن يتولّى أبناء تلك المناطق إخراج أنصار القاعدة وعدم توفير ملاذ آمن لهم.
لكن ما حدث،هو على النقيض من ذلك! فقد تحوّلت تلك المناطق إلى عمق استراتيجي للعمليات المسلحة لحركة طالبان في أفغانستان، وأصبحت – في الوقت نفسه- موطناً ومركزاً لكل من طالبان والقاعدة والمتعاطفين معهما. ويشير عدد من المراقبين والمحليين إلى أنّ قدرة عناصر طالبان على فرض الأمن ومحاربة العصابات في تلك المناطق ساهمت في تجذيرها وبناء تأييد شعبي حولها.
ويتم الحديث اليوم عن "طالبان الباكستانية"،في تلك المناطق، حيث تشهد تطبيقاً لأحكام الشريعة وفرضاً لمظاهر الأسلمة بصورتها المتشددة،وحالة شبيهة بأوضاع افغانستان تحت حكم إمارة طالبان الأولى،إذ لا يتردد أحد مدراء التنمية الإقليمية في تلك المناطق بالقول:"لو كنت أقطن تلك المناطق لانضممت فوراً إلى حركة طالبان".
وعلى الرغم من الضغوط الدولية والغربية الشديدة على الرئيس مشرّف - التي تطالبه بضبط المناطق الحدودية ومنع استخدام الأراضي الباكستانية من قبل مقاتلي طالبان- فإنّ هنالك إقراراً متأخراً بعدم القدرة على القضاء على القاعدة في تلك المناطق؛ إذ يؤكد تقرير صادر عن الاستخبارات الأميركية أنّ المطلوب هو "تحييد القاعدة" في تلك المناطق لا القضاء عليها.
وقد بدأت الدول الغربية تفكر بإعادة تأهيل المناطق الحدودية من خلال مشاريع تنمية وإعمار وتعليم طويلة المدى،وتخصيص نفقات بمئات الملايين لمساعدة الحكومة المركزية على تجفيف منابع الجهاديين واقتلاع التربة الخصبة التي تساعد على توفير بيئة حاضنة لهم. بخاصة أنّ بعض التقارير تشير إلى أنّ القاعدة تعتمد في عمليات التجنيد في باكستان عموماً،وتلك المناطق خصوصاً، على دور الجماعات الإسلامية الباكستانية ذاتها، التي تشترك مع القاعدة في العديد من الأهداف كنزعة العداء لأميركا والإحباط وخيبة الأمل من سياسة الرئيس مشرّف والسعي إلى"تطبيق الشريعة" و"إقامة الحدود" في تلك المناطق.
وعلى الرغم من انتشار المدرسة "الديوبندية" الحنفية في باكستان التي تشكل المرجعية الدينية والفقهية لحركة طالبان إذ تختلف عن المرجعية الدينية والفكرية السلفية لدى القاعدة إلاّ أنّ حالة من "التزاوج السياسي" تبدو واضحة في السنوات الأخيرة بين الطرفين.
بالضرورة تعاني باكستان، تاريخياً، من أزمات بنيوية عديدة، تبدأ من أزمة الهوية والاندماج القومي مروراً بأزمة التوزيع والعدالة، وصولاً إلى الأزمة السياسية الداخلية لنظام مشرّف. إلاّ أنّ الخطورة الحقيقية تكمن بانفجار هذه الأزمات بصورة مشتركة خلال اللحظة التاريخية الراهنة،ما يضع رهان مشرّف في البقاء والاستمرار،على الصفقة مع بوتو،موضع امتحان حقيقي،لا موضع استقرار ووقف لمسار التدهور العام!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد