(1)
كفاك بصحتك سقما وبسلامتك داء.
حكيم .
قال مسعر لعطية العوفي:

كيف أصبحت ؟ قال :في سلامة مشوبة بداء وعافية داعية الي فناء.

كثيرون منكم قرؤوا كتاب عقلاء المجانين للنيسابوري ، ومعظمنا يعتقد  بل ويجزم و متأكد جدا أنه عاقل، ولم يخالط الجنون عقلة، ولم يصب بلوثة عقلية ،واذا وصفنا أحدهم بالجنون ، لابد أن نفتك به لإثبات أننا عقلاء ألف مرة منه ، لكننا  مع إيقاعات الحياة المتسارعة ،وهمومها الكثيرة ، ونظرا لكم  الاختراعات الهائل  التي وفرت لنا ما نعيشه اليوم من رفاهية، وترف ورفاهية مجنونة ، من خلال  وسائل مواصلات واتصالات  حديثة ،  كالسيارات والطائرات  وشبكات ووسائط الإعلام المختلفة  والكهرباء والهاتف بصرعته المتنوعة ، والأجهزة الالكترونية المختلفة ،  وتقنيات استخراج النفط والغاز والأسلحة الجرثومية والنووية ، والمعدات والتقنيات الطبية و الإنترنت بفضائه الاسفيري الواسع،الذي خلق مجموعات كبيرة ومتنوعة من الناس انغمست في غرفه (يدردشون  ( فلم نعد نري الكثير من المجانين يهيمون علي وجوههم ، في الشوارع حفاة عراة ،شعث الشعر، وربما  نسي بعضنا في غمرة اللهاث وراء لقمة العيش، والانخراط في عالم الانترنت المتشعب، أن الله  لم يخلق الدنيا دار زوال وفناء ،وكسب وتحصيل لدار بقاء وخلود .
عن فرقد السبخي قال :

مكتوب في التوراة:يا أبن ادم ،أنت في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمك وكثيرون منا لا يبالون بتساقط ساعات وأيام أعمارهم ، كأوراق الخريف بعضهم يقضي ثلثها أو نصفها، او أكثر من ذلك في عالمه الخاص ، عالم الإنترنت ، بعضهم يقضي جزء مقدرا من العمر في النوم ، وفي سفاسف الأمور ودنايا المقاصد ، والكل يحسب أن ما يقوم به ويفعله هو عين الصواب والعقل .
قال أبو القاسم الحكيم :

من عرف نفسه كان عند الناس ذليلا ، ومن عرف ربه كان عند الناس مجنونا  ووصف رسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بالجنون ،من مشركي مكة،  حينما تحداهم بالجنون ، وفي غمرات الحياة ينسي كثيرون ، أن الشباب والقوة يتبعه شيب ووهن وضعف ، وأن العز يتبعه ذل وإنكسار ويتبع الغني  الفقر ، والصحة  السقم ، ولذلك لن تجد شخصا يعترف لك بجنونه ، رغم أن المستشفيات ملئي بالآلاف ممن فقدوا نعمة العقل ، كما أن الكثير منا لا يفكر مجرد تفكير ، في أن يذهب لاختصاصي في أمراض  العقل والأمراض النفسية الأخري، التي انتشرت بسبب قلق حياتنا العصرية والصاخبة ، حتي لا يتهمه الناس بالجنون ، لكنه يسارع دائما الي مراجعة الطبيب لخلع ضرس العقل والرشد ،أو إذا أصيب بصداع او نزلة برد ، ولا تدخر النساء فلسا واحدا، في إجراء عمليات تجميل متعددة ، لشد وحشو أثدائهن بالسيلكون ،حتي يشعرن بأنهن مازلن صبايا وأبكارا ،لينجذب الرجال إليهن  ولكي لا يتخلي  الأزواج عنهن  ، وأصبحت عيادات أطباء التجميل مزدحمة بعديد النساء، اللاتي يردن نفخ شفاههن وخدودهن ،ونظرة واحدة علي فضائياتنا العربية ،تجعلك تري قوس قزح من تلك الخدود، والشفاه  الملونة التي تشبه  البالونات ، مما يجعلنا معاشر الرجال ،لا نكاد نغمض أعيننا  ( ومش حنقدر ) ونحن (نبحلق) في المغيرات خلق الله.

فهل جنت بعض النساء ؟ لا والله إنهن يقلن للكل أنهن في كامل عقولهن وهل مطلوب من كل أمراة أن تشبه هذه النجمة او تلك ؟ ولماذا كل هذا الصرف البذخي ؟ ونادرا ما تجد أمراة أجرت عملية تجميل ، تعترف بفعلتها ، تماما كرفضها الاعتراف ، بسنها الحقيقي ،لذلك يقولون : سؤال المرأة عن سنها قلة أدب وعدم ذوق.

والجنون في اللغة الاستتار ، تقول العرب جن الشئ يجن جنونا  ،إذا استتر، وأجنه غيره أجنانا ،إذا ستره قال لبيد:

حتي ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها.

يعني الشمس ألقت يدا في ليل مظلم وستر الظلام الفجاج والطرق.
وسميت الجن بالجن لاجتنانهم عن أعين الناس.

وللمجنون أسماء عديدة في اللغة :( الأحمق،والجمع حمقي والرقيع والمرقعان وهو الذي يتمزق عليه رأيه وعقله،ومنها الموسوس، الذي يتخبطه الشيطان،ومنها المخبل والمختبل ،ومنها الانوك ومنها البوهة (شبهوه بطائر) ومنها الذولة بالذال المعجمة ، ولا يقصد بها المراة السودانية ،ومنها المهوس ،وكثيرا ما كان الكبار يقولون لنا في صغرنا ، أقعد يا ولد أنت مالك شقي ومهوس كدا؟ ربما كنا مجانين في تلك السن الباكرة ،ومنها الهلباجة وهو الاحمق كثير الاكل ، تري كم هلباجة تعرف ؟ ربما كثير ، فمعظم الناس في زماننا هذا يحبون الأكل حبا جما ،  ومنها الأهوج ،وهو ذاهب العقل، ومعظم الهائمين تجدهم ممن تعلقت قلوبهم بفتاة، أو امراة فهامت عقولهم ،وشردت قلوبهم ، والعاشق مجنون أيضا فالعشق ذل وجنون، ومنها الواله، وهو عند العرب، الذي فقد ولده ومنها الهبنقع وهو الاحمق المبالغ في حمقه ، فانظر لنفسك أيها الأعز الأكرم ويا أيتها الكريمة الفضلي ، أي صنف من هؤلاء أنت ،حتما ستقول ولا أي أحد ، أنا في تمام وكمال عقلي ، وعلي كل فقد قال أكثم بن صيفي حكيم العرب لبنيه:
إياكم وصحبة الأحمق ، فإنه الي ان يضركم أقرب منه الي ان ينفعكم .
وقد ساق العرب أمثالا عديدة في الحمق والحمقى مثل قولهم :
تحسبها حمقاء وهي باخس ، أي مع حمقها تظلم الناس ، ومنها قول الامام الشافعي :
جنونك مجنون ولست بواجد طبيبا يداوي من جنون جنون.

ولعل الضبع من اكثر الحيوانات اتصافا بالحمق بعد الانسان ،وتسمي العرب جنون الأبل بالهيام (سمعت أن لبن النوق سوف يتم تصديره الي أوربا ،وأخشى أن ترفضه دول الغرب بحجة أن الإبل العربية مصابة بالهيام ،وهو داء يأخذها فتهيم وتجن، ولو قال احدنا لكلب  يا كلب يا كلب فإنه يقصد :يا كلب يا مجنون، والسعر ضرب من جنون النوق ، تقول العرب:

ناقة مسعورة  وتأول بعضهم قوله تعالي (إن المجرمين في ضلال وسعر) أي جنون.
سوف أتناول في مقالي الثاني، بعض ما جاء في كتاب عقلاء المجانين ، لكني هنا سوف استعرض عناوين لأخبار حوادث وحكايات غريبة ، تصيدت معظمها من موقع( وكالة النهار الإخبارية ) في بحر اقل من عام واليكم تلك  العناوين :

(بسبب نكد زوجته ، رجل يقتل بناته الثلاثة ، بلطجي يقتل سائقا لرفضه تزويجه شقيقته المتزوجة، مصرية تجمع بين زوجين بعقدين شرعيين وفي منزل واحد (أكدت دراسة أجراها مركز مصري متخصص أن المصريات تفوقن على جميع نساء العالم بضرب رجالهن، وذكرت الدراسة ، التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية نشرت أجزاء منها في بعض الصحف، أن نسبة النساء اللواتي يقمن بضرب أزواجهن بلغت 28٪ من مجموع النساء المصريات. ) تري أي الرجلين سينال علقة ساخنة من هذه الزوجة ؟.

أربعة  باكستانيين يغتصبون فتاة بمكة!(الناس تذهب الي مكة للحج والعمرة ومحو الذنوب، وهؤلاء يبحثون عن المزيد منها ) مغربي يقتل طفلته بسبب لعبة أطفال ، سوري يقتل شقيقته لتغيبها عن المنزل لمدة عام ، باعا طفلهما ب366وشتريا هاتفا ، قال له حرك السيارة ، فاخرج مسدسه وقتله  لبنانية تضع السم لبناتها الثلاث في الطعام ، ثم تلحق بهن ( حتي اللبنانية الرقيقة تقتل ) تونسية تذبح عشيقها من الوريد للوريد ،(أين هذه من قوله تعالي .. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، لو دعت إليه أن يقتص لها لكان أفضل مما فعلت ) طفل الخطيئة طعاما للقطط ؟! ، تدفن عارها بعد تهشيم رأسه  في حوض مرحاض بمساعدة عشيقها ؟! ( واذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت ) ما يكون جوابهما ؟ مشعوذ يقتل فتاة ببندقية لعلاجها، يقتل ابنته بالسيف لأنها حملت سفاحا، تقتل أطفالها الخمسة بسبب الفقر( لو كان الفقر رجلا لقتلته.
 
علي بن أبي طالب) يقتل زوجته ، يقطعها أربا ويدفنها ويزرع زيتونة فوق قبرها ،لأنه ربما اراد أن يعيش في سلام كون الزيتون رمز له ، خرجت من البيت ب10 ريالات وعادت ومعها ربع مليون ،في أي بورصة ضاربت هذه ؟ يا لها من تجارة رابحة خاسرة ؟ قتل أمه وزوجها وذهب يتنزه مع الكلب ؟
 
أي كلب هذا ؟ الم أقل لكم من قبل أن  الكلب أكثر وفاء من بعض الناس؟ أما أن يكون أكثر وفاء من الأم ، فإن ذلك ربما  نوع من الجنون، وآخر يقتل امه طعنا من اجل فتاته ، ليست هذه العناوين من صنع  الخيال  بل هي من واقعنا المعاش، ومن محيطنا القريب ، نواصل هذه العناوين المثيرة، أب يقتل طفلته لشكه بأنها إبنة حرام ؟ وأين كان هذا الغيور حتي رأت النور؟
 
السجن 22 عاما لأب اغتصب ابنته علي مدار سنوات طويلة ، مدرس مارس الجنس مع تلميذة280 مرة ، لا أدري سر الرقم ، لعله حاول تسجيل اسمه في كتاب غينيس للارقام القياسية، فتاة تسرق 750 ألف دولار لتقيم حفل زفافها (يا لحظ العريس أو المعرس  السعيد من نومه لقي كومه) شاب عربي يخرج زوجته الي الشارع ويجلدها امام خلق الله ( كده الرجولة أو بلاش) سائق بص الطالبات يعترف بمائتي اعتداء جنسي (وبعد ذلك يفتي بعض اشياخنا، بأرضاع الكبير، لكن الحمد لله ليس من بينهم هؤلاء.) متزوج من 32 أمراة وأغتصب بناته القاصرات (ربما كان القصور في هذا الكم الهائل من الزوجات، اللاتي فشلن في هد حيله  فلجأ لبناته اللاتي خرجن من صلبه ، وليس جنونا أصاب الرجل) طالبة تبيع عذريتها لسداد رسوم دراستها(أين مجانية التعليم في دولنا العربية؟ في الصين اثبت عاشق يدعى يو ليانج(27 سنة) بأن الحب لا يعرف حدودا، فرغم وفاة خطيبته زهانج جينج(25 سنة) بسكتة دماغية قبل الزفاف بعدة أيام الا انه أصر على عقد مراسم الزفاف.

العروس الميتة تم إلباسها ثوب الزفاف الأبيض ووضعت في كفن زجاجي بينما وقف العريس يرتدي البدلة الى جانبها ،وتم إجراء جميع مراسم الزفاف ،وتم عقد القران ، كما لو كانت العروس على قيد الحياة . 
وقد بذل العريس جهدا كبيرا لإقناع أهل عروسته، بالموافقة على إجراء الزفاف بهذا الشكل الحزين(إنه أيضا  نوع من الوفاء وليس جنونا كما قد يتبادر الي عقول البعض)  وما زلنا نقرأ تلك  العناوين الغريبة التي تقود البعض الي القتل والاغتصاب والسرقة،  وغيرها من الجرائم وكلها جرائم قل أن يرتكبها الإنسان في حالة توازن نفسي، وليت القضاة في كل مكان  يأمرون بعرض هؤلاء المجرمين الي اختصاصين في الطب النفسي ، قبل الحكم عليهم ، بالإعدام او السجن أو غيره نطالب بذلك كحق تكفله كل الشرائع السماوية،والقيم الأرضية دون إقرار بالطبع بجرائمهم ، ربما يكونوا مجانين حقا، والمجنون في ذمة العاقل، ويكفي أن الصلاة وسائر الشعائر التعبدية  تسقط عنه ، كثيرات من النساء  يقتلن أزواجهن بطرق بشعة كصب الزيت الحار ، علي أجسادهم ، أو من خلال ساطور أو آلة حادة ، بسبب خيانة أو شجار ، أو  زوجة أخري، ويفعل الرجل ذات الشئ وربما لذات الأسباب ،والذي يغتصب بنته أو أخته أو والدته مجنون والعياذ بالله ،والذي يقتلهن لأي سبب كان أشد جنونا  ،لذا لا ينبغي أن يقتل امرئ يؤمن بالله واليوم الاخر ، نفسا بريئة لمجرد ظن بالخيانة أو حتي تثبت منها والشبلي قال ذات يوم لاصحابة :

ألست عندكم مجنونا وأنتم أصحاء زاد الله في جنوني وزاد في صحتكم ، ثم أنشد :
قالوا جننت بمن تهوي فقلت لهم ما لذة العشق الا للمجانين.
وقال بشر بن عمرو:
أتق الأحمق فليس للأحمق خير من هجرانه.
وقد يصفك الناس بالجنون إن كنت ثرثارا،أاو كنت منعزلا عنهم ،لكن لا عليك كن عاقلا ولا تحاول إرضاء الناس ، ذلك أن إرضاؤهم  جميعا غاية لا تدرك ،كل ما يعجبك، وألبس ما يعجبهم ،وأتبعهم في كل شئ، إن كنت إمعة، لكن لا تنسي أبدا الحكمة التي تقول :
من راقب الناس مات هما.

عش في جنونك مرتاح البال،ولا تستغني عن عقلك لحظة واحدة ،فالعقل زينة كما يقولون.
وعلي أية حال الجنون فنون ، والجنون أنواع ومذاهب، فالذين يجلسون الساعات الطويلة أمام الحواسيب يناجون ربا غير الله ويتواصلون مع عالم وهمي،من صنع خيالهم ،ومع شخصيات متوهمة ،ينشدون سعادة زائفة قلقة معظمهم إما مجنون، أو في طريقه الي شكل من أشكال الجنون ، التي اشرنا اليها آنفا، وعلي كل يقولون : المجانين في نعيم
وهناك مثل يقول :

خذوا الحكمة من أفواه المجانين مفاده:
ان رجلا ثريا توفى في بلد بعيد ، ووصل خبر وفاته الى أولاده وحدد ولده الأكبر يوما للعزاء ، ولكن إخوته طالبوا بالميراث، فقال لهم انتظروا حتى ننتهي من مراسم العزاء ، وبعدها لكم ما أردتم ،ولكنهم رفضوا ،وقالوا بل نقسم التركة اليوم فرفض مطلبهم.
و قال لهم :

إنه عار علينا  ماذا ستقول الناس ان رأونا نقسم التركة قبل انتهاء العزاء؟ وذهب  إخوته فورا الى القاضي يشكون أخاهم ، فأرسل القاضي له أمرا بالحضور فاخذ يفكر ماذا يفعل ؟ ذهب الرجل الى احد عقلاء البلد ليستشيره وكان صاحب رأى سليم ،فسرد عليه القصة وقال انظر لي مخرجا فقال له الحكيم اذهب الى فلا نفلن يفتيك ويعطيك الحل غيره قال له: ان فلان مجنون فكيف يحل مشكله عجز في حلها العقلاء؟! 
قال: اذهب إليه فلديه ما تريد فذهب إليه وقص عليه القصة :فقال له المجنون : قل لإخوتك :هل عندكم من يشهد بان أبي قد مات؟ قال الرجل : أصبت والله ، كيف لم أفكر في هذا ، ولكن : خذوا الحكمة من أفواه المجانين.
قالوا : ان أبانا توفى في بلد بعيد ، وتلقينا الخبر  ولا يوجد شاهد على ذلك قال لهم القاضي : آتوا بالشهود، وظلت القضية معلقه الى سنه ونصف، وقال لهم أخوهم : لو صبرتم أسبوعا واحدا ، كان خيرا لكم وأعقل.

وذهب قوله مثلا: حذو الحكمة من أفواه المجانين ، نسأل الله السلامة لكم جميعا
قيل لحكيم : أي الأشياء خير للمرء؟ 
قال : عقل يعيش به .
قيل : فإن لم يكن ؟
قال : فإخوان يسترون عليه .
قيل : فإن لم يكن ؟
قال : فمال يتحبب به إلى الناس .
قيل : فإن لم يكن ؟
قال : فأدب يتحلى به .
قيل : فإن لم يكن ؟
قال : فصمت يسلم به .
قيل : فإن لم يكن؟ 
قال : فموت يريح منه العباد والبلاد.
(2-2)

الجنـون : كما يعرفه البعض هو  اختلال القوة المميزة ، بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب، بأن لا تظهر آثارها وتتعطل أفعالها، إما لنقصان جبل عليه دماغ المرء ، في أَصْل الخلقة ، وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال، بسبب خلط أو آفة ، وإما لاستيلاء الشَّيطان عليه، وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه، بحيثُ يفرح ويفزع من غير ما يَصْلح سبباً ا.هـ" حاشية رد المحتار- كتاب الطلاق ) وقد عرف  بعض الفلاسفة الجنون بتعريفات مختلفة فإليك عزيزي القارئ  بعضها.

لو كان الجنون مرضاً  ،لسمعت العويل في كل بيت . ( مثل إنجليزي )
 لقلة العقلاء ، لم يعرف المجانين . ( يمن بن الأزرق )
بين الجنون والعبقرية، خيط ارفع من نسيج العنكبوت . ( جبران خليل جبران )
قيل لجحا: عد لنا المجانين في هذه القرية. قال: هذا يطول بي ..ولكني استطيع بسهولة أن اعد لكم العقلاء.

طرح أحدهم يوما على الكاتب الفرنسي الكبير اندريه موروا سؤالا  يقول : هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب الكاتب: لا الأصح أن نقول : أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين)

(وما  أما  الشاعر جيرار دونرفال فقال : (أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء) (أي في المصح العقلي ).
و كان شوبنهاور مصابا بجنون العظمة ،وعقدة الاضطهاد في نفس الوقت ، وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد ، ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول : بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده، من أجل خنق عبقريته ، أو القضاء على إبداعه الفلسفي، ولعل ذلك هو ما يعرف اليوم في الطب الحديث بالوسواس القهري ،أو الاكتئاب الحاد أو القلق  او العصاب أو الفصام أو غيرها من الأمراض النفسية والعصبية. وبعض من تصيبهم تلك الأمراض لديهم اعتقادات عجيبة، فمنهم من يقول لك :أنه يعلم ما تضمر له من شر وأنه يعلم أمورا غيبية كثيرة بينما لا يعلم الغيب الا الله هذه واحدة ،ومنهم من يقول لك :أن لديه قوي خارقه ،وهناك من يقولون لك : أنهم يسمعون أناسا يحدثونهم في صحوهم ومنامهم،  ومنهم من يشعر بما يعرف بجنون العظمة فتجده يضع لنفسه أهمية وأنه شخص عظيم الشأن ،والمجانين تنتابهم وتعتريهم حالات مختلفة في اليوم الواحد بل خلال ساعة واحدة ،فتجدهم ساعة في انشراح وسرور شديدين وأخري في كدر وضيق وشدة وقلق واكتئاب ، وقد تقود بعض تلك الحالات أصحابها الي إنهاء حياتهم ، ما لم ينتبه أليها  ذووهم ،وقد لاحظنا بعد غزو أمريكا للعراق إصابة مئات الجنود الذين شاركوا في المعارك بأمراض نفسية مختلفة أدت الي انتحار بعضهم ، كما ارتفعت نسبة الانتحار في صفوف الجنود الاسرائليين مؤخرا.

ويميز  الروائي العراقي المقيم بالقاهرة خضيري ميري في سفره الموسوم ب(أيام العسل والجنون) بين ما يسميه الجنون الأبيض تماما كالكذب الأبيض  حيث يعتبره مسالما لا يؤذي احدا من الناس ويشير له بالعسل ،وبين الجنون الحقيقي الذي يأتي من الأمريكان الذي توحشوا ودمروا العراق وشعبه دون أحساس أو عقل ،ولعله يصور جنونهم بشكل بديع مجنون في مشهد قصف ثلاجة الموتي وتعفن الجثث ،تماما كما يمثل البعض بالجثث ثم يسلخونها ويصلبونها ،دون تدبر للمثل الذي يقول (لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها)  يقول ميري عن تجربته بمستشفي للأمراض العقلية "تجربتي الخاصة التي ادعيتها  في زمن النظام السابق دفاعا عن حياتي ووجدتها بعد ذلك تجربة مثيرة كتبت عنها وساعدتني على الانتشار والترويج  (وما زلت اعتاش عليها) فانا الان اعمل على إصدار المجلد الأول " تاريخ الجنون في العقل العربي " الذي اثبت من خلاله  ان العقل العربي كان اقرب الى الجنون بدءا من جنون الأشياء وانتهاء بالحكام العرب الذين كانوا يملكون  خمسة آلاف جارية ويسفكون الدماء في الليل مع شرب النبيذ".

وللدكتورة والأكاديمية المتخصصة في علم النفس "كاي ردفيلد جاميسون كتاب  بعنوان "عقل غير هادئ"  ترصد فيه وقائع  مدهشة، داخل مسارب نفس إنسانية ، ثرية الوجدان، شاعرية الملامح، تأخذك صفحاته إلى متاهات ذات مرهفة الحس، رقيقة الحاشية، أرهقها طول العذاب، وناءت بما تحمله من آلام، من خلال  سردها لسيرة ذاتية شجاعة ومدهشة، ومفعمة بالصدق والبوح الشفيف، والتصوير المذهل لتفاصيل آلام وعذابات يعاني منها ملايين البشر في شتى بقاع الأرض، ثم يغلقون صدورهم على مجرياتها وأحداثها، ويحكمون الأقفال والمتاريس على منافذ تلك المعاناة، حتى لا تظهر خارجاً ، جالبة لأصحابها العار والسمعة السيئة، والطعن في أُمن ما يمتلكه الإنسان.
 
وما يتنمايز به عن باقي الأحياء: وهو  العقل. فالكتاب إذا يرصد بين دفتيه  بعضا من أهم  أمراض العصر في  زمن اللهاث والجري والتنافس الشرس الذي يورث القلق والإحباط، وهو الزمن الذي تحول فيه الإنسان إلى ترس في آلة التصنيع والإنتاج، بينما تتوارى حاجاته النفسية ومتطلباته الروحية ، وراء ستائر حاجياته المادية وكماليات الحياة الكثيرة والمتشابكة. وما يشاهده كل يوم من مناظر الدماء التي تسيل في أرجاء واسعة من أنحاء العالم ، حيث أصبح القتل أمرا مألوفا وبالجملة ،الأمر الذي جعل كثيرون لا يحسون بقيمة الحياة الحقيقية وطعمها . ورغم انتشار مختلف أنواع  الأمراض النفسية وكثرة المصابين بها، الذين نعلمهم والذين نجهلهم.
 
إلا أننا نعرف  القليل جداً عن طبيعة وتفاصيل وأعراض تلك الأمراض ، التي تدمر حياة كثيرين، حيث  يدعي كل منا  سلامة عقل وما يدري لعل لوثة من الجنون مست عقله في غمرة لهاث وراء سراب عالم مجنون.

وقد كتب ابن حبيب كتابا، حول بعض عقلاء المجانين ،يعتبر حتي الان فريدا من نوعه بين كتب التراث العربي ،نحاول هنا إيراد نماذج، ممن احتفي بسيرتهم من عقلاء المجانين فيه يقول :
قيل لليلى : حبك للمجنون قيس  اكثر ام حبه لك؟ فقالت:بل حبي له.قيل : وكيف؟ قالت :لان حبه لي كان مشهورا ،وحبي له كان مستورا، وكان سيبويه النحوي الشهير من عقلاء المجانين، وذكرت زوجته أنه  كان يهيج إذا لم يأكل اللحم ، فإذا أكل شيئاً دسماً سكن.
قال الجاحظ: رأيت مجنوناً بالكوفة فقال لي : من أنت ؟ قلت: عمرو بن بحر الجاحظ. قال: يزعم أهل البصرة أنك أعلمهم، قلت: إن ذلك لقال. قال: من أشعر الناس ؟ قلت :امرئ القيس. قال: حيث يقول: ماذا ؟ قلت:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والخشف البالي
قال فأنا أشعر منه، قلت حيث تقول ماذا ؟ قال حيث أقول:
كأن وراء الستر فوق فراشها ... قناديل زيت من ورام قرام
فأينا أشعر ؟ قلت: أنت ، قال: فأيهما أقوى الماء ؟ قلت:الريح. قال: لم تصب. قلت وكيف ؟ قال يقع الثوب في الماء فيبتل في طرفة عين، ويبسط في الريح فلا يجف إلا بعد ساعات، أصبت أم أخطأت ؟ فقلت: أصبت.

وكان  ولهان المجنون مجنوناً ذاهب العقل قال ذو النون المصري: رأيت ولهان يوماً وهو يطوف حول البيت وهو يقول: شوقك قتلني، وحبك أقلقني، والاتصال بك أسقمني، فقدت قلباً يحب غيرك، وثكلت خواطراً تسر بسواك.

وحكي أحمد بن إبراهيم الدوري قال: كان ولهان المجنون مهيباً، ذا هيبة، وكان كل من يراه يهابه من سلطان أو غيره. وكان يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، وكان يقول: يا أيها الناس تزودوا ليوم الدين، يوم تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، وينتصف فيه المظلومون من الظالمين، اعملوا، في الأيام تراخ، وفي النفس مهلة، قبل أن تؤخذوا على غرة.
قال عبد الله بن محمد العتبي: بينا أنا ذات يوم في صحن داري إذ هجم علي نقرة المجنون، فخفت منه وقلت: أنا بين ضربة ولطمة. فوقف في جواري وأنشأ يقول:

نظرت إلى الدنيا بعين مريضة ... وفكرة مغرور وتأميل جاهل
فقلت هي الدار التي ليس مثلها ... ونافست فيها في غرور وباطل
وضيعت أيامي أمامي طويلة ... بلذة أيام قصارٍ قلائل

ثم ولى هارباً، فوثبت إلى الدواة وكتبت الأبيات، وأغلقت الباب.

قال أبو عثمان الوسطي خرجنا غزاةً في الصائفة، فنحن في بعض الثغور، إذ رأيت الناس مزدحمين. فجئت فإذا أنا بمجنون يقال له شقران المجنون، وهو يقول الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها. والآخرة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها. وسمعته مرة أُخرى يقول الدنيا دار زوال وانتقال واضمحلال. والآخرة دار جلال وجمال وكمال. قال وسألته من الحكيم؟ فقال من لا يتعرض للعذاب الأليم. قلت وما العذاب الأليم ؟ قال البعد عن الكريم .
 قال أبو يعقوب السوسي رأيت ببلد مجنوناً يقال له بكار العريان. على سوءته خرقة، وبيده قصبة على رأسها كالعلم، وهو يعدو ويقول:

كفى حزناً إني مقيم ببلدة ... أحباي عنها نازحو ني بعيد
أقلب طرفي في البلاد ولا أرى ... وجوه أحبائي الذين أُريد
قال قلت ومن أحباؤك ؟ فأخذ بيدي وأدخلني المقابر وأشار إليها، وقال هؤلاء.
قال ذو النون المصري مررت ذات يوم بلقيط المصري، وهو يخط على الأرض بأصبعه، فتأملت فإذا هو قد كتب:
فلّ حياء الناس من ربهم ... وكلهم يظهر تقواه
ليس ينال المرء من دينه ... ما نال في عاجل دنياه
يخاف أن يمقته أهله ... ولا يبالي مقت مولاه
وعابد اللّه يرى برّه ... في كل ما سرّ وما ساه
همته في كل أسبابه ... رضوان ذي العزة مولاه

قال محمد بن المبارك: صعدت جبل لبنان فإذا برجل عليه جبة من صوف مكتوب عليها: لا يباع ولا يوهب. قد ائتزر بمئزر الخشوع، وارتدى برداء الورع، وتعمم بعمامة التوكل. فلما رآني استخفى وراء شجرة بلوط، فناشدته الله أن يظهر فظهر. فقلت كيف تصبر على الوحدة في هذه القفار ؟ فضحك وأنشأ يقول:
يا حبيب القلوب من لي سواكا ... أرحم اليوم مذنباً قد أتاكا
أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا
يا مرادي وسيدي واعتمادي ... طال شوقي متى يكون لقاكا
ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير اني أريدها لأراكا

قال المدايني: كان بمكة مجنون يقال له أوفى البدوي من مجانين الأعراب وكان يصلي الليل كله، فإذا أحس بالصبح رمى بطرفه إلى السماء وأنشأ يقول:
ربّ مكحول بمحلول الأرق ... قلبه وقف بنيران الحرق
فكره في اللّه في أوقاته ... وبه يفتح فاه ان نطق

قال العباس بن علي الهاشمي كنت والياً بمكة فجلست ذات يوم في مسجد وعندي جماعة، فوقف بنا إعرابي وقال أيكم الأمير ؟ فأُشير إلي. فقال:
يا من ترفع بالإمارة طاغياً ... أخفض عليك فللأمور زوال
فلئن أفادك ذا الزمان بصرفه ... فبصرفه تتقلب الأحوال

 

قال الأصمعي بينا أنا ذات يوم عند والي البصرة إذ قيل مجنون بالباب يتكلم بالشعر. فقال أدخلوه فدخل، فإذا هو رجل كأنه نخلة سحوق، نتن الأطراف موسوس، فسلم على الأمير، فرد عليه السلام وقال من أنت ؟ فقال:
إني أنا أبو الشريك الشاعر ... من سأل عني فأنا ابن الفاغر
فقال الوالي ما أمدحك لنفسك ! فقال:
لأنني أرتجل ارتجالاً ... ما شئت يا من أُلبس الجمالا

 

قال الأصمعي فقال لي الأمير ما هذا مجنون. فألق عليه ما عندك فقلت له ما الريم ؟ فقال:
الريم فضل اللحم للجزار ... ينحره للفتية الأ يسار
فقلت ما الحلوان ؟ فقال.
أليس ما يعطي على الكهانة ... والحر لا يقنع بالمهانة
فقلت ما الدكاع ؟ فقال:
إن الدكاع هو سعال الماشية ... واللّه لا تخفي عليه خافية
قلت فما التوله ؟ فقال:
عوذة عنق الطفل عندي توله ... وقد تسمى العنكبوت توله
قلت فما الرفة ؟ فقال.
الرّفة التبن فسل ماشيتا ... لقد وجدت عالماً خرّيتا

 

قال الأصمعي فاستحييت من كثرة ما سألته. فقال قل لي:
ما الهلقس والسحساح ... والحمل الراوح لا يراح
قلت الهلقس الطمع للحريص، والسحساح الذي لا يستقر في موضع والراوح المهزول فقال:
ما أنت إلا حافظ للعلم ... أحسنت ما قلت بغير فهم
فقال الوالي فحبذا كل مجنون مثل هذا. ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قدم إليه المال قال.
أكلّ هذا هو لي بمرّه ... تم سروري واعترتني مسره
ثم أقبل على الأمير فقال.
رشت جناحي يا أخا قريش ... أقررت عيني وأطبت عيشي.

 

والجنون بمختلف مسمياته ، يصيب الكبير والصغير،والرجل والمرأة ، الغني والفقير، الأبيض والأسود ، لا يستثني أحدا ،وهو ابتلاء من خالق الأنفس للناس لحكمة يعلمها ،وقد يعجز الأطباء والحكماء عن علاجه، ومما يحكي عن مجنونات النساء ، أن بلال بن جماعة قال : فكرت ذات ليلة فقلت يا رب من زوجتي في الجنة ؟ فأريت في منامي ثلاث ليال ، إنها جارية سوداء في أوطاس، فأتيت أوطاس فسألت عن الجارية فقال لي : رجل يا هذا ! تسأل عن جارية سوداء مجنونة ،كانت لي فأعتقتها ؟ قلت وكيف كان جنونها ؟ قال كانت تصوم النهار، فأعطيناها فطورها فتصدقت به، وكانت لا تهدأ بالليل، ولا تنام، فضجرنا منها، قلت : فأين هي ؟ قال ترعى غنماً للقوم في الصحراء، فإذا أنا بها قائمةً تصلي، فنظرت إلى الغنم فإذا ذئب يدلها على المرعى ، وذئب يسوقها ! فلما فرغت من صلاتها، سلمت عليها فقالت :يا بلال ! أنت زوجي في الجنة! قلت قد رأيت ذلك في النوم، قالت: وأنا بشرت بك. فقلت:ما هذه الذئاب مع الأغنام ؟ قالت نعم أصلحت شأني بيني وبينه، فأصلح بين الذئب والغنم!

 

قال محمد بن المبارك الصوري: خرجت حاجاً، فإذا أنا بجارية سوداء ، يقال لها عوسجة بلا عطاء ولا وطاء، فسلمت عليها فردت السلام، ثم قالت:أنت يا أبن المبارك على بطالتك بعد ؟ قلت لها : وكيف عرفتني ؟ فقالت : أضاءت مصابيح الآمال، في قلوب العمال، فتنورت جوارحي بنور الصفاء، فعرفتك بمعرفة من على العرش استوى، قلت :وما الصفا ؟ قالت: ترك أخلاق الجفا، قلت لها: من أين جئت قالت: من عنده، قلت : وإلى أين تريدين ؟ قالت :إليه. قلت: بلا زاد ولا راحلة؟ قالت: يا أعمى ! أسألك عن مسألة، لو أتى أحدكم واستزار خاله إلى منزله ،أيجمل أن يحمل معه زاداً ؟ ثم أنشأت:

 

ارض باللّه صاحباً ... وذر الناس جانبا
صافه الودّ شاهداً ... كنت أو كنت غائبا
لا تودّن غيره ... ذا رفيقاً مصاحبا

 

قال سهل بن سعد: كانت عندنا بعبادان امرأة مجنونة اسمها سلمونة. وكانت تغيب شخصها بالنهار فلا ترى، فإذا كان الليل صعدت السطح وجعلت تنادي إلى الصباح سيدي ومولاي جنبتني عن عقلي، وأوحشتني عن خلقك وآنستني بذكرك، وقد نفيت عن خلقك، فوا أسفاه إن نفيت عنك.

 

قال ذو النون: بينا أنا أسير في طريق إنطاكية، إذا بجارية مجنونة ،عليها جبة صوف فقالت: ألست ذا النون ؟ قلت : بلى، وكيف عرفتني ؟ قالت: فتق الحب بين قلبي وقلبك فعرفتك، ثم رفعت رأسها إلى السماء وقالت:تاق قلب أوليائه شوقاً إليه، فقلوبهم مربوطة بسلاسل الأنس، ينظرون إليه بمعارف الألباب، ثم قالت: أسألك. قلت نعم. فقالت: أي شيء السخاء ؟ قلت: البذل والعطاء. قالت :هذا السخاء في الدنيا. فما السخاء في الدين ؟ قلت المسارعة إلى طاعة الله، قالت: فإذا سارعت في طاعته ترجو منه شيئاً ؟ قلت: نعم، بالواحدة عشرة. قالت: مه يا بطال ! هذا في الدين قبيح وإنما المسارعة في الطاعة ،أن يطلع المولى على قلبك، وأنت لا تريد منه بديلاً، ثم قالت: إني أُريد أن أُقسم عليه منذ عشرين سنة، في طلب شهوة فاستحي منه، مخافة أن أكون كأجير السوء، يعمل للأجرة ولكنني أعمل تعظيماً لهيبته.

 

وصاحب العشق  الشديد عد من المجانين، وفي ذلك ، قال الريان بن علي الأديب: عشق فتى من أولاد بعض أصدقائي جارية لبعض الأشراف. فأنحله العشق وأضناه، وتيمه وأتلفه. فمررت به يوماً في بعض الخرابات، فقلت له كيف حالك؟ فقال أسوء حال. عقل هائم، وغم لازم، وفكر دائم. ثم أنشأ يقول:

 

تيمني حبّها وأضناني ... وفي بحار الهموم ألقاني
كيف احتيالي وليس لي جلد ... في دفع ما بي وكشف أحزاني
يا رب فاعطف بقلبها فعسى ... ترحم ضعفي وطول أشجاني
وشاعرنا السوداني الكبير الذي توفي في ريعان شبابه ،اتهم بالجنون وهو القائل :
وَيح نَفسي تَنام مِن دُونِها الأَنفُـس  شَـوطـاً وَمــا تَـهـم بِـشَــوط.
أَخذ الَنـوم مِـن يَـديّ وَأَعطـى  أَعيُناً ولَم أَزَل مِـن الصَحـو أَعطـي.
لَفَهـا اللَيـل فـي يَديـهِ بِأَصفـى  معلـم يَفصـل البِـطـاح وَمَــرط.
وَاِعتَلى في النُجوم فِاستكره الأَعيُن  فـي سَمطهـا المَشـت وَسَمـطـي.
أَنا وَالنَجم ساهِـران نَعـد الصُبـح  خَيـطـا مِــن الشـعـاع لِخـيـط.
كَـم صَبـاح نَسَجتـهُ أَنـا وَالنجـم  وَأَرسَلـت شَمسـه مِـن محـطـي.
قُلت سِيـري عَلـى أُسـرة قَومـي  وَاِستَحري عَلـى مضاجـع رَهطـي.
أَنا جراءهـم سَهـرت لِيستغشـوا  مِـن أَجلِهـم أَصيـب وَأَخـطـي.

 

وهو القائل أيضا:
أمسي مضى بين التحسر والأنين
ووسادتي بللتها بالدمع والدمع السخين
مع تباشير الصباح وبسمة الفجر الأمير

 

غنيت مثل الطير فرحى في رياض العاشقين
وهو القائل بعد فصله من المعهد العلمي:
قالوا: وأرجفت النفوس وأوجفت  وهاج وماج قسور غابه
كفر ابن يوسف من شقي واعتدي وبغي..ولست بعابئ او آبه
قالوا:احرقوه بل اصلبوه بل انسفوا للريح ناجس عظمه وإهابة
ولو أن فوق الموت ملتمس للمرء مد الي من أسبابه
ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً
ألا ترون الرسل قد  وصفوا بالجنون ؟
قال تعالى : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).
 كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
فالجنون : هو أن تأتي بشيء لم يسبق أن أتى على منواله أحد.
الجنون : أن لا تكون إمعة، بل تأتي بأشياء غريبة عجيبة خارقة ، غير مألوفة ، بل الجنون  أن تبدع و تفكر وتتميز عن الآخرين،  وتؤثر فيمن حولك ، ثم لا يهم ما يقول الناس عنك .نسأل الله السلامة للجميع.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب   الآداب