وطئت قدماي المكتبة العمومية مهرولتين كأنهما تسعيان بين الصفا والمروة ، هما الآن في مكان مقدس تجتمع فيه عصارة قرون من الفكر والأدب الإنسانيين ، كل مرة ألجها أكاد أخلع نعلي إجلالا وكأني بالواد المقدس طوى ، هذه المرة كنت أبحث عن خليل جديد يرافقني ليالي أسبوع كاملة ، اسم الخليل " اسمع ، أيها السيد الرئيس " لمبدعته هيلين توماس . إنه صوت الحرية يجذبني إلى الكتاب وإلى الحرة هيلين كقبس يلتهب سعادة ناشدا فطرته . لهيلين قائمة من خمسة عناوين على الرفوف ، كل واحد منها يثير بطعمه شهية القراءة قبل الآخر .
الإنسان منا كما هيلين يولد حرا ثائرا ، وكأنه يرفض الخروج إلى الدنيا بعد أول نفس يستنشقه، أول رسائله الصوتية إلى هذا العالم صرخة مدوية ، إنها علامة الحياة وبداية الخطى البطيئة الواثقة نحو الموت . لقد خرج سليما معافى لأنه صرخ قبل أن يلقنه المجتمع لغة ويلبسه عادات بعينها ويفرض عليه دروس الصمت دون استشارة ، ثم يكبر الإنسان وينأى بجانبه متغانيا معرضا عن فطرته، فيتعلم مايناقض الحرية التي جبل عليها . لكن ذلك الطفل المتمرد الحر القابع في أعماق روح الإنسان يرفض الكبر متحينا الوقت المناسب لينتفض، وسرعان ما يصرخ كما فعلها أول مرة ، وأبلغ مظاهر الصراخ قول الحق عند لمح الظلم دون خشية لومة لائم .
لقد صرخت شيخة الصحافيين هيلين توماس بأدب طيلة حياتها ، ولم تعرف بنت طرابلس الفيحاء اللبنانية الأصل النفاق الإعلامي يوما ، فكان الأبيض أبيضا والأسود أسودا ، وكانت تعتقد أن أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم . المراجع لحضورها الصحافي في البيت الأبيض يعلم تمام العلم جرأتها في إزعاج الرؤساء المتعاقبين عليه منذ الستينات من القرن الفائت بأسئلتها الصريحة . لم يرق لها منهم سوى الراحل جون كينيدي الذي لم يرق لآخرين فأنهوا حياته في بركة من الدماء .
كانت صرخاتها عنوانا للديموقراطية الأمريكية ، وكأن لسان حال البيت الأبيض يفخر أمام العالم : "انظروا إلى هيلين توماس ، انظروا إلى شفافيتنا، هذه حرية الرأي تطبيقا ، وهذه حرية التعبير ممارسة عندنا ، فخذوا منها ماشئتم أو اتركوه " .
لم تتخلف مقالة من مقالات هيلين منذ بداياتها عن نصرة فلسطين والدعوة إلى تحريرها من قبضة الصهاينة المحتلين ، ولم تعجز عن الدعوة إلى حظر المساعدات المادية لإسرائيل في كل مناسبة وحين ، ولم تتوانى مداخلاتها عن المجاهرة بأن الحكومة الامريكية لا تملك حق التدخل العسكري في الفيتنام ولبنان والعراق وأفغانستان وقتل المدنيين.
هيلين صوت غالبية الأمريكيين الأحرار الوطنيين الذين لاصوت لهم في قبة الكونغرس ومنصة البيت الأبيض وأروقة وزارات الخارجية وأبواق الإعلام المنافق . إنها الصوت الأمريكي الحقيقي الذي يردد صدى نشيد العلم ذي النجوم المتلألئة ترديدا حرا صادقا: " أرض الأحرار وموطن الشجعان !"، ويعكس مرايا التعديل الأول لوثيقة الحقوق من دستور الولايات المتحدة: "لايجوز للكونغرس أن يسن أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته ، أو يحد من حرية التعبير ، أو الصحافة ، أو حق الناس في التجمع السلمي ، أو أن يحظر تقديم التماس إلى الحكومة لتصحيح المظالم " .
لقد فضحت هيلين صناعة النفاق الإعلامي في أمريكا من قبل وسائل الإعلام الرسمية التي تحولت إلى كلاب أليفة بدل القيام بمهمتها كسلطة رابعة في حراسة ديموقراطية البلاد والعباد ، وعاشت هيلين عمرها الصحافي تحذر من خطر الصهاينة الذين تغلغلوا داخل سدة الحكم والإعلام والإقتصاد والفكر والدين والتربية على مستقبل أمريكا والأمريكيين .
أطفأت هيلين شمعتها التاسعة والثمانين على إيقاع صوت أوباما : "عيد ميلاد سعيد ياهيلين ، ماهي أمنيتك في السنة الجديدة ؟ "، ابتسمت هيلين "للسيد الرئيس" كعادتها : "السلام العالمي ، ومشروع قانون إصلاح حقيقي للرعاية الصحية !! ".
لن ينسى أوباما هيلين التي بدل أن تبارك له قعوده على كرسي الزعامة فاجأته بسؤال أفقد مصداقيته منذ وقفته الافتتاحية: "هل تعرف أي بلد في الشرق الأوسط يمتلك القنابل النووية؟" .
صمدت هيلين لأزيد من نصف قرن من الزمن رغم بغض الصهاينة واليمين المتطرف لها، قبل أن يدبروا لها المكيدة بقيادة الصهيوني المنحدر من عائلة يهودية هنغارية لورانس آري فليشر السكرتير الصحافي السابق للبيت الابيض تحت رئاسةجورج بوش والحاخام اليهودي المتطرف ديفيد نسنوف .
كرسيها في البيت الأبيض سيكون شاغرا في عيد ميلادها التسعين ، لكن الغياب يجسد دائما حضور العظماء ، وإذا غابت الشمس عن مشرقها يوما ، فاعلم أنه يوم القيامة ، إنها نهاية حرية التعبير التي قامت عليها أمريكا .
أخيرا، أتساءل : هل يكرم العرب هيلين توماس رائدة الصحافة الأمريكية الحرة في البيت الأبيض بجائزة ينقشون عليها الكلمات التي طردتها من البيت الأبيض بحروف من ذهب: «هؤلاء الناس (الصهاينة) محتلون ، وعليهم أن يرجعوا إلى ألمانيا أو بولندا أو أمريكا ، أو أي مكان آخر ...أخبِرْهم أن يخرجوا من فلسطين» ؟ أم أنهم سينضمون إلى طابور الصهاينة وسيرددون بصيغة التأنيث ماقاله بنو إسرائيل لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون" ؟
آه ياهيلين ... ماأنبلك !
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع