-خصصت ندوة اليوم السابع في المنسرح الوطني الفلسطيني في القدس جلستها هذا المساء لاحياء ذكرى الأديب الكبير الشهيد غسان كنفاني، الذي اغتيل في بيروت في 8تموز 1972.
بدأ النقاش داود ابراهيم الهالي فقال:
إن كان المؤرخ شاهداً على العصر الذي عايشه، فإن غسان كنفاني وعلى الرغم من مضي ثمانية وثلاثين عاماً على استشهاده، فهو حيّ بين ظهرانينا،  في جعبته أصول الفكر والثقافة لا أقول الفلسطينية بل العربية والعالمية في أنقى ضروبها، وسيظل كل من قرأ عن غسان وتأصل بفكره السامي متخذاً من هذا السراج المنير معلماً ثورياً لم يخبُ نوره باستشهاده في  الثامن من تموز 1972.
لم يكن غسان ممن عمّروا في هذه  الأرض كثيراً، وقد تبدو للكثيرين أن ستة وثلاثين عاماً عاشها كنفاني ليست بالعمر المديد، إلا أنها كانت حافلة بالعمل السياسي والأدبي والفني والمسرحي، هي سنوات قضاها بين فلسطين ولبنان وسوريا والكويت والعراق ليرتقي بعدها شهيداً في غابة الأرز والخلود، فارق الحياة ولم يفارق القضية، وأبى الموت إلا أن ينال منه ومن لميس ابنة أخته مصدر إلهامه والروح التي سرت في قلمه ليحضنها غسان إلى ما وراء الحياة.
بعد مضي ثمان وثلاثين سنة على استشهادك سيظل أبناء الضاد من بعدك مختلفين على تسميتك، فهل أنت فنان أم أديب أم ثوري لا يعرف الكلل، أم مسرحي كانت القضية العادلة الخشبة التي صُورت عليها حالتنا وما ستؤول إليه فأحسنت تصويرها؟.... هي ثمان وثلاثون سنة كانت حافلة بالعطاء الذي لم ينته ولن ينتهي، فالعظماء لا يموتون، فأنت الفيلسوف الذي لم يلوّث يديه على طاولة العلقمي وابن  كماشة الأندلسي، كما أنك لم تنتج قصاصات نسميها الآن مجازاً أدباً.... وكذا لم تكن يا غسان ممن يرضى بيع نفسه رغم كل الإغراءات، وأنت لم تعش زماننا الحاضر بجسدك الطاهر، ولكن روحك ما زالت تحلق في فضاء فلسطين... وستسمع معنا أبا خيزران بوقاحته وباستهتار قيادته لمركب العبور يصرخ في صحراء عروبتنا: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
رحمك الله يا غسان وأنت تحيا بيننا متنقلاً بين الخيمة والخيمة، متيقناً أن أقزام آخر الزمان سيختلفون في فبركة وتلوين حق العودة... ولكنهم سيردون إلى أعقابهم خاسئين.... وستظل يا غسان تذكرنا بالعودة إلى حيفا مهما فعلت عربات الهرولة والمقامرة بما تبقى من خريطة هذا الوطن.
قضيت نحبك وما زال صدى صوتك يتردد في زمن سكبت فيه أقلام المتظاهرين بالثقافة والملوثين للفكر والسياسة حبراً ستذروه الرياح يوماً، وستظل أيها الفيلسوف صخرةً في وجه العدى، وستظل رياح الأرز تخبرنا بمقولتك الخالدة: "إنَّ قضيةَ الموتِ ليست على الإطلاق قضية الميت... إنها قضية الباقين"، وإذا جنَّ الليل على قدسنا أخذ لساني يردد قهراً: "هذا العالم يسحق العدل بحقارة كل يومٍ." 
تكاد أقلام كلِ من كتب عنك لا تنتهي حبراً ولا رسماً، ولكن أعظم ما قيل فيك: "إنَّك كنت شعباً في رجل، وكنت قضيةً، وكنت وطناً، ولا يمكن أن نستعيده إلا إذا استعدنا الوطن."
    كم كان صعباً أن تترك أرض البرتقال الحزين وهدير بحرها... لتنقلك رياح الزمان الغابر مع شعب أبيّ لم تبدله السنون وزمن البيع باليورو والدولار.
يقول أحد رفاق غسان ممن عرفوه منذ الخمسينات أنه عاش فقيراً، ولكنه ترك لشعبه إرثاً كبيراً ما يزال ماثلاً حتى يومنا هذا، وكان رجل موقف لم يتلوّث بغواية المال رغم الفرص العديدة التي أتيحت له، عُرض عليه المال ولكنه أعرض عنه، وفضل استدانة القروش من محبيه ولم ينكسر أمام أية إغراءات، وظلَّ يجسد السمو الثوري الحقيقي".
كان يقف وقفة ناجي العليّ مراقباً مسجلاً لهذا الزمان، وما آلت إليه أحوال أمتنا العربية من هرولة نحو الحضيض، ويستشرف المستقبل الذي يطغى عليه نهج العلقمي... فيقف غسان أسداً هصوراً يردد مقولته: "إن الانحراف السياسي يبدأ من النقطة التي نتنازل فيها عن استراتيجياتنا التحررية لحساب إستراتيجية العدو"، فهل عرجت يا أيها الفيلسوف الشهيد على موضة المفاوضات المريعة التي تفتقد لأبسط معاني الحياء.
وفي النهاية، والله ستلومنا الأجيال القادمة على زمان أميتنا في ديننا وثقافتنا وتاريخنا وعلى ما ننتجه من قصاصات ندعي زوراً أنها إنتاج أدبي، مسلطين سيوفنا  على رقبة شعرنا العربي الأصيل، مغردين من الشعر أسفله بين التعايش مع الصراصير وأمطار فلورنسا.... وليحتفي بها الغرب، وليبارك أعمالنا العبثية التي قصمت ظهر حضارتنا، وليصبح الأدب سلعةً تُصنّع بأتفه الأفكار ولتسوّق بأرذل العبارات.... وبعد الهلاك، ستقف يا أبا خيزران بكل وقاحة وتقول: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
بعده قدم سمير الجندي قراءة فنية لاحدى قصص كنفاني القصيرة فقال:
الرمز في قصة "البومة في غرفة بعيدة" لغسان كنفاني
" البومة في غرفة بعيدة " قصة قصيرة للكاتب الشهيد غسان كنفاني رحمه الله، الآثار الكاملة، الطبعة الثالثة، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987، المجلد الثاني( القصص القصيرة) ص 43.
تناول كاتبنا في هذا النص القصصي مأساة الشعب الفلسطيني منذ نكبته وتشريده عن أرضه حتى استقر به الأمر في غرفة من الأسمنت، عارية إلا من حلمه وذكرياته وآماله العريضة، استقر في مخيم بارد منسي في غياهب الشقاء.
لقد استخدم الكاتب لغة قصصية مكثفة، لغة شاعرية، لا تخلو من الإيقاع الموسيقي الحزين، والذي يتناسب مع موضوع القصة تناسبا عضويا، صادق العبارة، عبر من خلالها عن الذات الفلسطينية تعبيرا مطابقا للواقع المؤلم، فاقتحم الحلم المبعثر على صفحات الزمان، مستخدما الرمز استخداما موفقا أعطى معان ودلالات ورسم لنا خارطة المعاناة بكل تضاريسها ومنعطفاتها، بدءاً من عنوان القصة" البومة في غرفة بعيدة" ومرورا بكل جزئياتها، فقد احتوى العنوان على كل جوانب القضية الفلسطينية بأربع كلمات لا أكثر، فالبومة رمز للنكبة والتشرد، والغرفة هي ذلك الحيز المتواضع الذي يحتوى الجسد الفلسطيني، بل هو ذلك الحصار الذي فرض عليه من قبل القريب والغريب، وهو أيضا المكان الذي وجد نفسه فيه بعدما غادر جنته تاركا حياته وراءه، فأصبح جسدا يملئ حيزا في مخيم، ليحصل بعد ذلك على لقب لاجئ كما سماه المتاجرون بآلام شعبنا ولتحول قضيتنا إلى قضية لاجئين.
أما كلمة "بعيدة"، فهو يريد القول أن فلسطين أصبحت بعيدة عنا، بعيدة بحصارها، بعيدة بضياع خيراتها ومقدراتها، بعيدة وتبعد باضطراد كلما أنشأ المحتل مستوطنة جديدة، وكلما هدم بيتا، وكلما اقتلع شجرة زيتون أو برتقال، وكلما قمع حلما، فلسطين تبتعد وتبتعد وتبتعد...
فالبومة التي في غرفة بعيدة، هي تجمع بين الذكرى والصورة في رمزها للتحدي، في المقابلة بين الفرار والموت، وبين صورة البومة الغاضبة في غرفته وتلك البومة الغاضبة في الحديقة التي دفن فيها صندوق الذخيرة سنة 1948.
فالرمز هنا ملفت للنظر، أعطى النص القصصي حركة غير عادية، وألبسه ثوبا قشيبا من التشويق تجعل القارئ لا يبرح مكانه حتى يأتي على القصة في جلسة واحدة، ينصهر فيها مع الحقيقة المؤلمة، تاركا القارئ يغوص في عمق النص ينهل من درره الثمينة، فيقف القارئ على حافة الكلمة أحيانا وأحيانا أخرى ينصهر معها ويتفاعل كيميائيا مع دلالاتها، خاصة عندما يعلل الكاتب فكرته بإضاءة تنير الطريق أمام القارئ، ليصل إلى عمق الفكرة التي نمت وترعرعت في وجدان الكاتب قبل أن يخطها على صفحات كتاب بألوان المأساة الفلسطينية.
لقد كوم ملابسه فوق مسمار طويل حفر عدة ثقوب قبل أن يرتكز نهائيا في ثقبه الحالي، فاستخدام المسمار الطويل ليس استخداما ساذجا بأي حال من الأحوال، إنما استخدمه كرمز أو إشارة إلى الفترة الزمنية الطويلة التي عاشها ويعيشها شعبنا الفلسطيني في ظل الغربة القاسية، والدلالة القطعية على خيبة الأمل التي كان الكاتب يعيشها، مما ولّد عنه اليأس من نصرة العالم لقضيته، فهو لا يرى بصيص نور في النفق المظلم، هنا وهناك، فهو يشير إلى المكان وبذلك يكون الكاتب قد حدد بناء المكان والزمان بمشهد مختصر معبر عندما قال:" والملابس تتكوم فوق مسمار طويل حفر عدة ثقوب بظهر الباب قبل أن يرتكز نهائيا في ثقبه الحالي"ص 43.
يصف الكاتب ضوء الغرفة بأنه كان كان خفيفا وشاحباً وهنا يرمز إلى إصابة القيادة بالعجز والسطحية ويعري ادعائهم بتحقيق الخلاص، وعندما يخاطب الكاتب نفسه قائلا: " يجب أن تعلق الصورة بالفعل على الحائط" ص43. هي صورة "البومة" فهو يريد تعليق الصورة أمام سريره، وعلى الحائط البني في الغرفة العارية، فهل يريد القول بأن الصورة ستكون للجدران العارية في تلك الغرفة؟ أم يريد الإشارة إلى قضية أبعد من ذلك؟
إنه بالتأكيد يريدنا أن لا ننسى نكبتنا، وأن نجعلها تعيش في وجداننا وفي ذاكرتنا، فلا تنس أيها الفلسطيني ما حلَّ بك ولا تجعل هذه الغرفة محطتك الأخيرة، بل هي محطة مؤقتة تعود منها إلى فردوسك المفقود.
       ولماذا أعطى الجدار اللون البني؟ فهل أراد تصوير مدى كآبتنا، وبؤسنا، فاللون هنا له دلالة نفسية لخص به الكاتب مقدار كبير من المعاناة والعذاب والبؤس في حروف هذا اللون القاتم ، فهذا اللون لا يأتي بعده إلا اللون الأسود، لون الموت والهزيمة، أما تعليق الصورة على الجدار العاري فهو يريد القول بان مأساة فلسطين لا يمكن أن يحلها ولا يمكن أن يخرجها من حالتها هذه الا شعب فلسطين، لأنه هو حارس الحلم، وهو الصخرة الصلبة التي يستند عليها الحلم، فهو الذي يقف وجها لوجه أمام عدوه المتمترس خلف ضلال الذين يتاجرون بآلام هذا الشعب...
فهو يقول: "عندما آويت إلى فراشي في منتصف الليل، فاجأتني الصورة، كان ضوء الغرفة خفيفا بعض الشئ "ص 44.
ثم يبدأ الكاتب بوصف البومة وصفا حسيا، فهي بشعة بل غاية بالبشاعة، فرأسها اكبر من المعتاد، ويشبه شكلها القلب المفلطح، ومنقارها معقوف بصورة حادة، عيناها كبيرتان ولكن النظرة فيها خوف، ويأس، نعم يا سيدي فهي بشعة جدا نكبة فلسطين فيها دمار ودماء وحرائق ، فيها تشريد وخوف ، فيها ألم ومعاناة، فيه ظلم وحرمان، وهذه جميعا حالات غاية في البشاعة، لقد وصل الأمر بأن يندثر تحت وطأتها الأمل ليحل محله الخوف المستمر واليأس القاتل، إنها نكبة فلسطين يجسدها الكاتب بكل خفة وبراعة بجملة بريئة في ظاهرها، إنها نكبة فلسطين جعلها الكاتب بومة الشؤم التي صارت عنده معادلا موضوعيا لمأساة فلسطين، فتراثنا الأسطوري والشعبي يصفه بطائر الشؤم الذي يجلب المضرة، إذا ما ظهرت البوم في مكان ما، وقد أجاد الكاتب بل أبدع في هذا الاستخدام، ووظفه هنا ليخدم الفكرة ويرتقي بها إلى ارفع مستوى أدبي، وقد استُخدم البوم كرمز عند شعراء العرب قبل الإسلام وبعده، وقد ذكرته العرب في أشعارها، وقارنته بالشؤم قال أحد الشعراء قديما:
يا قصر جمع فيه الشؤم واللوم         متى يعشش في أركانك البوم
يوم يعشش فيك البوم من فرحي       أكون أول من ينعيك مرغوم
فنكبة فلسطين كبيرة جدا كرأس البوم الكبير والناس يهربون من ذكر البوم بسبب شؤمه، وقد ترك الناس فلسطين خوفا من المصائب والمذابح التي حلت بهم، ومنقار البوم حاد كالمنجل الذي يجتز العشب، فاجتز الشعب الفلسطيني من أرضه، لقد عاش الكاتب بداية النكبة وشاهد مآسيها بأم عينه فهو يقول:" كانت النظرة -رغم ذلك- تحتوي خوفا يائسا، مشوبا بتحفز بطولي وتشبه إلى حد بعيد نظرة إنسان خضع فجأة للحظة ما، عليه أن يختار فيها بين أن يموت، وأن يهرب"ص 44.
هذه الصورة ليست غريبة عن الكاتب – كما ذكرنا- فقد رآها في مكان ما، وهذا دليل على إن البومة هي المعادل الموضوعي لنكبة فلسطين، فقد عاش الكاتب أيامها المرة القاسية 1948، وقد عاش أيضا أيام الغربة الأشد قسوة، والصورة كما هي(بومة)، بمخالب ورأس كبير وعيون فيها غضب وقسوة، فهو يقول بأنه هرب من موت ليقع بين مخالب موت اشد وأقسى، لقد عاش في بلاد ظن بأنه ضيف مرغوب فيه، إلى أن خاب ظنه وأمله تلاشى وخبا من عينه بريق الحياة، فهو يقول: " شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماما، وأنني أرتبط معه بذكرى يجب أن لا تمحى" ص 45.
نعم يجب أن لا تُمحى تلك الأحداث من الذاكرة العربية الفلسطينية، فالكاتب يستخدم الفعل المضارع الذي يدل على الثبات والدوام ويستخدم أكثر من مؤكد لنفي النسيان(أن،لا)، لأن فكرة النسيان غير واردة بحسابات هذا الشعب...
يرجع الكاتب إلى أصل ذاكرته عندما يقول: " كان ذلك قبل عشر سنوات على وجه التقريب" ص 46. وهذه دلالة زمانية على الحدث، فالنكبة بدأت 1948 وكتابة القصة كما هو مدون في نهايتها كان سنة 1959 وهذا الناتج الأدبي كان حصيلة العشر سنوات الماضية من حياة الكاتب، تلك السنوات التي استمرت فيها معاناة شعب فلسطين، وهذا هو وجه البوم، هو يعيش الذكرى بكل تفاصيلها، فيذكر لنا أيضا قريته الصغيرة التي تتساند بيوتها كتفا إلى كتف فوق حاراتها الموحلة، تلك القرية التي أصبحت بيوتها أشباحا، هو يتحدث عن قرية وأظنه يقصد كل قرية فلسطينية غادرها أبناؤها، ولذلك أصبحت بيوتها أشباحا، كما يذكر لنا كيف كانت فلسطين تسقط شبرا شبرا، ويصف لنا كيف تراجع الناس عن أرضهم تحت ضغط الهجوم الصهيوني، ليستقروا في خيمة، لكن المقاومة كان مستمرة برغم قلة الحيلة وضعف الإمكانات، فالكثير من النساء ترملن وفقدن أبناءهن، يقول: " أصوات القذائف البعيدة تدلنا أن المعركة تقع الآن"ص46.
كما أشار الكاتب إلى مذابح فلسطين فقد كانت المذابح في كل قرية ومدينة، لدرجة إننا لا نستطيع حصر التواريخ التي حصلت فيها المذابح، فهو يقول: " لا أعرف في أي يوم وقع الحادث، حتى أبي أيضا نسي ذلك، كان اليوم المشئوم، كان أكبر من أن يتسعه اسم أو رقم" ص46.
إذا هو يوم ولكن ارتكبت فيه العديد من المذابح، لدرجة إنه لا يمكن أن يطلق على ذلك اليوم بيوم المذبحة، فكل يوم كانت ترتكب فيه الكثير من المذابح لدرجة يصعب حصرها...
ويتطرق الكاتب إلى قضية مهمة ألا وهي قضية السلاح وكيف تتلقاه العصابات الصهيونية، بل ويشير إلى أنواع بعض تلك الأسلحة، وشدة أذيتها للناس، ويصف بالمقابل سلاح الفلاح الفلسطيني الذي يتكون من أدواته الزراعية التي يستخدمها في أرضه، وبذلك فإن الفلسطيني هو الذي يحاول الدفاع عن نفسه دون إعداد مسبق لمعركة، بينما الصهيوني هو الذي تلقى الإعداد واستعد استعدادا كاملا لتحقيق مآربه في معركة غير متكافئة، وهذا ما حصل في دير ياسين فلم يتلق الفلسطيني العتاد أو المداد للاستمرار في مقاومته، ولم يكن في مقدوره الصمود أمام عدو مجهز أحسن تجهيز... يقول: " كان الفأس هو سلاح الواحد منهم بعد أن تتقيأ بندقيته كل ما في جوفها"ص47. ناهيك على إن بنادق الفلاحين إن وجدة فهي غير مؤهلة للقتال هي قديمة صدئة، لا رصاص فيها ولا إمداد له، فهي "تتقيأ" كما قال كاتبنا وهذا الفعل المضارع يدل على تلف لك البنادق كما يدل على عدم فاعليتها وتأثيرها على العدو...
        كما يعبر لنا الكاتب عن عزة النفس التي يتحلى بتا الفلسطيني عندما يعطي زوجته المسدس وأمرها أن تستخدمه إذا ما حصل ما هو بالحسبان، أي عليها قتل نفسها وأطفالها خوفا من عار الهزيمة، وهنا فإن الكاتب ينقل لنا صورة حقيقية متحركة للأوضاع التي سادت تلك الأيام، فهو يفضل أن تنتهي حياة أسرته على أن تصبح في قبضة عصابات الصهاينة...إذ يقول: " توجه لتوه إلى دُرج عتيق كان محظوراً علينا الاقتراب منه، تناول مسدسا صغيرا ودفعه لأمي بعد أن تأكد من حشوه، وأشار إلينا بعينيه تجاهنا، أنا وإخوتي، وقفل عائداً إلى الشارع"ص48.
يعود الكاتب إلى"البومة" عندما نعقت، أمام دفنه لصندوق القنابل في الحديقة، فلماذا نعقت البومة هنا ؟ ألم تنعق من هذا الفعل الذي فيه جهل وجبن، وذلك الفعل ألم يساعد على عظم النكبة، فهذه القنابل التي دفنت في الحديقة، ألم يكن من الأجدر أن تستعمل في الدفاع عن الأرض والعرض، فهي إشارة من الكاتب بأنه يرفض مثل هذا الفعل تماما مثلما يرفضه كل شريف صاحب نخوة، وهذا يدل على رفضه لكل مستسلم جبان، فالمناضل الحقيقي هو الذي يقاتل أعدائه حتى الرصاصة الأخيرة، انظر إلى الفرق بين والده المناضل الذي دفع بمسدسه لزوجته لتنهي حياة الأسرة خوفا من عار الهزيمة، وبين هذا الجبان الذي يخبئ الصندوق في الحديقة خوفا من أن يجده العدو في بيته وتحصل كما يقول "المصيبة" !!! وهذه أيضا إشارة إلى من يجمع كل أصناف السلاح لا لاستعمالها وإنما لكي تصدأ في مخازنها، ونرى ذلك جليا في قوله: " يوشك اليهود أن يدخلوا القرية ... وإذا وجدوا هذا عندي قامت قيامتهم"ص 51. وأضاف قائلا: " أنت صغير وتستطيع أن تخترق الحديقة ... أريدك أن تدفن الصندوق في آخرها"ص51.
ثم جرى نقاش مطول شارك فيه ابراهيم جوهر،د.وائل ابو عرفة وآخرون.

المراجع

ahewar.org

التصانيف

أدب  مجتمع