حظيت قضية "حوادث السير" بأهمية قصوى في الأيام الأخيرة، بعد حادثة جرش الأليمة، على مختلف المستويات الرسمية والإعلامية، وتصاعدت المطالبات بضرورة وضع حدّ لهذه المسألة التي باتت بالفعل تؤرق المواطنين والمسؤولين وتُشكل أحد عناوين الهدر الحقيقية في المصارد البشرية والمالية.
بعض الكتّاب والمعلقين والمواطنين، في تعقيباتهم، أبدوا قلقهم وخوفهم من أن يكون هذا الاهتمام الكبير بموضوع "حوادث السير" بمثابة "فزعة" عاطفية أو آنية سرعان ما تتلاشى، لتبقى الحال على ما هي عليه، دون وضع حلول جذرية أو صارمة. أُذكّر الزملاء الكتّاب بالعديد من القضايا الحيوية الأخرى التي ثارت حولها الزوبعة الإعلامية، بالدرجة نفسها، بدءاً من ملف التعليم العالي والبحث العلمي الذي تمّ فتحه قبل شهور وثارت حوله موجة مشابهة من الحديث الإعلامي والسياسي وعُقدت الخلوات، ولا نرى إلاّ أنّ التعليم العالي ما يزال يواصل مسيرة التدهور والانحدار، لِينضُب بذلك مصدر أساسيٌ في بناء ثروتنا، وأحد أهم روافد الدخل الوطني، من خلال بلايين الدولارات سنوياً التي تُرسلها الكفاءات المهنية الأردنية في الخارج.
بعد ملف التعليم العالي، فُتح ملف التربية والتعليم، وكُتبت في ذلك عشرات المقالات الصحافية والقصص الإخبارية، وتداول الناس الملف وما وصل إليه من مرحلة مترهلة، ثم انفضّ السامر، وبقيت حالة التربية والتعليم تنغل بالأزمات والمشكلات، دون أن نجد أية مخرجات حقيقية لكل ذلك الجدال والنقاش.
وخلال المرحلة السابقة (أيضاً) أُثير موضوع "البنية التحتية" وقدرات الآليات الحكومية في التعامل مع الأزمات والطوارئ، بخاصة بعد العاصفة الثلجية في الجنوب من العام المنصرم، ثم هذا هو الجنوب نفسه يقع الأيام الأخيرة أسير الظلام الدامس وانقطاع الكهرباء، وكأنّ قدره أن تتحول نعمة الثلوج عليه دوماً عناءً وشدّة.
في المقابل كانت هنالك مؤشرات متعددة على خطورة ملف الطاقة وضرورة وضع بدائل وخيارات استراتيجية في التعامل معه منذ سنوات، لكن هذا الاستحقاق بقي رهن التأجيل والتباطؤ إلى أن وصل إلى المرحلة الحالية من الحساسية والخطورة المباشرة على الأمن الاجتماعي والاقتصادي.
وهنالك قضية التسمم الغذائي والاعتداء على الأطباء والملف الصحي بأسره وملف الضمان الاجتماعي والأمثلة كثيرة، والملفات المفتوحة عديدة، وكلها تتعلّق بقضايا حيوية للمواطن على تماس مع حياته اليومية، وما يزال التعامل الإعلامي والرسمي معها قائماً على منطق "اوسعتموهم شتماً وأودوا بالإبل.."، وكأنّ الإعلام تحوّل إلى "ندّابة" في الأتراح والجنائز، لا دور الرقيب والراصد والمدقق في قضايا الوطن والمجتمع والدولة!
بالتأكيد لا يتحمّل الإعلام المسؤولية كاملة، بل جزءاً من المسؤولية ترتبط بمساحة الدور الذي يمكن أن يلعبه، فالدولة وأجهزتها ومؤسساتها والمثقفون والكتاب والبرلمان والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية جمعيها تتحمّل مسؤولية العجز عن مواجهة "الأزمات" الوطنية، وبناء جدول أعمال حقيقي كلٌّ في مجاله وميدانه. إذ من الواضح أنّ كل مؤسسة من المؤسسات تعمل منفردة وكأنّها تعيش في جزر مستقلة عن بعضها، وعندما تقع كارثة أو أزمة في مجال ما، تبدأ بالتلاوم وتبادل الاتهامات والتملّص من استحقاقات وضريبة تلك الأزمة.
ما يزال التعامل الرسمي والإعلامي والمدني، على السواء، يتسم بالارتجال والعشوائية والتخبط، وما نزال نفتقد إلى مجلس أو مؤسسة "سياسات عامة" أو معهد وطني، يتألف من خبرات تكنوقراطية ومتخصصة، يقدّم تقارير سنوية عن حالة كافة القطاعات؛ سواء من حيث البنية التحتية، قاعدة المعلومات، المؤسسات العاملة في هذا الحقل، مدى الالتزام بالاستراتيجيات والخطط والتحديات والعوائق..الخ، أو ما يمكن أن نسميه بـ:حالة الحقل؛ وربما يتجسّد ذلك مبدئياً بأن يكون هنالك تقرير عن حالة التعليم والتعليم العالي والصحة وعن قطاع النقل وقطاع الثقافة...الخ. كي نكون، على الأقل، على بيّنة ودراية أين نضع أقدامنا في مختلف المجالات، وكي لا نكون في كل أزمة كـ"من يريد أن يخترع العجلة من جديد"!
الملاحظة الجوهرية، في هذا السياق، أنّ هنالك مرحلة تحول بنيوي في مسار المجتمع والدولة مختلفة عن المراحل السابقة. ففي الوقت الذي يستطيع الصديق والعدو أن يشهد للأردن بمدى الإنجاز الكبير الذي حققه خلال العقود السابقة، فإنّ هذا الانجاز نفسه قد بدأت آثاره بالتراجع والتلاشي مع استحقاقات محلية وإقليمية وعالمية مختلفة تتطلب رؤية متطورة وقراءة جديدة بعيداً عن منطق الخطابة والارتجال الممارس حالياً.
الحاجة باتت ماسة إلى جدول أعمال وطني لكافة القطاعات، تُحدّد فيه المشكلات والتحديات والأوّليات ويكون موضع المناظرة الوطنية والإعلامية، وإلاّ ستبقى هذه المناظرة أسيرة الأزمات الموسمية وعنواناً للعدمية وحالة العجز، فحسب!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد