لا يستقر الحقد والغضب بقلب الداعية المسلم الذي يميل إلى التسامح والوسطية، ولا يتشطط أو يتشدد، ولا يكون عقدة الحل، أو يمتنع عن الحوار، ويغادر الطاولة، بل يكون في الحوار عنصرا ايجابيا، ومتوازنا، ويحاور بالتي هي أحسن، ويعتمد الصدق، ولا يحكم إلا بالعدل، ويعدل حتى لخصمه استجابة لقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى) ، ويحرص على معرفة الحقيقية وطلبها ، ويمتثل لقول الحق تبارك وتعالى:( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) وهو لا ينساق وراء الإشاعات، والأقاويل، فيبهت الناس بلا دليل ولا برهان، وإنما يتثبت، ولا يحاسب على النوايا والباطن الذي يتركه لله ، وقد كان الرسول عليه السلام يأخذ الناس بالظاهر حتى اتهم بأنه أذن ، وأشاد به القرآن الكريم بقوله « ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم».

ويكون المؤمن حلوَ المعشر لينا ، ولا يقول إلا حقا وهو يتمثل قول الله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد»، وإذا خاصم لم يفجر، وإذا هجر فيهجر هجرا جميلا، ويرجح المسامحة، والصفح، والمرحمة، ولا يخضع موقفه الشرعي لعرض من الدنيا قل أم كثر، وإنما يطلب رضا الله سبحانه وتعالى في أعماله وأقواله، وما تخفي الصدور.

وهو السياسي الذي لا يتهم بلا بينة، ولا ينقاد خلف الإشاعات، وتشويه الأخر امتثالا لقوله تعالى: (يا أيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).. وهو يحقق مضامين الآيات الكريمة في سلوكه السياسي، والاجتماعي: (وهدوا إلى الطيب من القول) ، (وقولوا للناس حسنا ) ،( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله).. (وجادلهم بالتي هي أحسن) ، « وادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة «.

وهو ابعد الناس عن الظلم حتى في المشاعر، ويعلم حقيقة قوله تعالى: (وقد خاب من حمل ظلما )؛ فيتورع عن الطعن في الذمم، وهو ادعى للاستجابة للحق، ولا تخرجه المصالح السياسية عن السياسة الشرعية ومنهجه القويم.

والى ذلك فيتجاوز عن المسيء، ويستقطب الناس بأخلاقه، وورعه، ويتسامى عن الأحقاد، ولا ينتقم لأسباب شخصية، ومنه ما اثر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من تركه إكمال عملية قتل عمرو بن ود حتى يزول غضبه اثر تلقيه بصقة كرم الله وجهه من خصمه الكافر فترك الإجهاز عليه إلى حين أن يزول غضبه كي لا يخالط واجبه الشرعي غضب شخصي.

والمؤمن يفتح بأخلاقه ومعاملاته القلوب والنفوس قبل البلدان والأمم، ويمتص حدة العلاقات الاجتماعية بالتزامه بتوجيه الله سبحانه وتعالى حيث قال: «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) ، وهو يصبر على الأذى في سبيل دعوته، ويستقطب المؤيدين محبة لا رعبا وخوف السيف، وسلاطة اللسان.

وهو فيه جوهر الخيرية لأهله، وللناس أجمعين، ويحمل مشعل النور والهدى إلى المناوئين، والخطائين ، والمتجاوزين الحدود.

السياسي الداعية ودود يميل إلى الرحمة والشفقة على الخلق، ويبني العلاقات الاجتماعية على أساس من الإخوة؛ التي هي أسمى العلاقات الإنسانية، ولا يتجاوز على حريات الآخرين، ومصالحهم العادلة، ويستجيب لمناشدات منع الضرر، ويتورع عن أن يمس الناس بالأذى حتى المعنوي وفق ما أوتي من قوة.

وهو راشد يحتكم إلى المنطق والحوار، واخذ مصالح الآخرين بعين الاعتبار في الحياة العامة، ولا يشق مجتمعه، ويبذر فيه بذور الفتنة، وينافس بطريقة شريفة، وأخلاقه هي سبيله إلى تأييد الناس، ولا يقدم نفسه كخصم في مجتمعه، ولكنْ موئلا للأمانة، والحق والعدل والصدق، وهذه أخلاق تجعله موضع إجماع، وهو ليس حيث خاصم فجر، وفي حال تباين الآراء واختلافها يحتكم إلى الشرع، وقد ارتضى ما ارتضاه الخالق سبحانه وتعالى لنفسه حيث قال: (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، وقوله عليه السلام: « لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم» ، وهو لا يضع نفسه مرجعية قصرية تهيمن على الحياة العامة، وإنما تصطفيه الناس كي يكون مرجعية أخلاقية، وتربوية في المجتمع حيث تتكرس مكانته بأخلاقه، وبرنامج الهداية الذي يحمله للعالمين.

والداعية ملتزم بالقاعدة الدعوية (درء المفاسد أولى من جلب المنافع) ولا يقسم المجتمع على خلفية تطرفه، وتعصبه لأرائه، وصم آذانه عن الصوت الأخر في المجتمع.

وفي مجتمع إسلامي سيأخذ الأشد إيمانا وأخلاقا مكانته الحقيقية بمحض قرار العامة، وإرادتهم، وليس باصطناع ادوار البطولة، وتجاوز حدود الخلاف، وجر الناس إلى التراشق بالحجارة، والألفاظ النابية، والشعارات الداعية إلى الفتنة. وهو لا ينفصل عن حقيقة دعوته في الدنيا، ويتمثل جوهرها في أحلك الظروف، ولا ينجر إلى الرد على الإساءة بمثلها، ولا يحول المجتمع إلى بؤرة للأجواء المسمومة. وقبل أن يدعو الآخرين للشعور بالفقراء فيتلمس حاجاتهم بنفسه، ولا يعيش في القصور والفلل، ويصرخ باسم الفقراء، ويطلب الدنيا حثيثا ويتأوه على المساكين، ويندد بحالة العوز التي يعيشون؛ وبالتالي يحقق إحدى أسوأ التناقضات التي أشار إليها الشرع بقوله تعالى: «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   رشاد أبو داوود   جريدة الدستور