سبق وان قالت العرب قديما «كلمة حق يراد بها باطل»، وقصد بها التفريق بين كلمة الحق، وقائلها ، والمناسبة التي تقال فيها، لاستخدامها في الباطل، وكثيرا ما حفل التاريخ بمن سرقوا الأفكار العظيمة، وانتحلوها، وللأسف أجهضوا هذه الأفكار في سلوكهم العملي، وحتى الزمن المـتأخر من هذه الأيام طرحت الشعارات بهدف إجهاضها ، ومنها القومية التي ارتقى من خلالها الجزارون إلى سدة الحكم، فأودوا بفكرة عظيمة ذلك أنها حملتها أدوات تحفل بالعنف، والإرهاب. وكثيرون يدعون أنهم أوصياء على الحق اليوم، وفي طريقتهم في الحياة ما يناقض الحق، ولو شاءت الظروف وارتقوا إلى السلطة، لأفشلوا دولة الحق، والأدهى من ذلك أولئك الذين يحتكرون الصواب، ويقدمون أنفسهم موازين للحق، والعدالة، وكل شيء فيهم يشي بالظلم والعدوان، والفجور في الخلاف، والسوء في المعاملات. ومن ذلك أن القاضي إذا درج يرتكب في حياته اليومية الاعتداء على حقوق الناس فلا يستطيع أن يمارس دوره في محاكمة مرتكبيها منهم.

وهنالك أنبياء كذبة، وكذلك سحرة يقلبون الحق باطلا، وتجد في الحياة العملية من تبالغ في العفة علنا ، وهي غالبا ما تفتقدها في السر، وهكذا تصبح الحياة مسرحا كبيرا للأكاذيب، والممثلون فيها حملة الشعارات ممن يحسنون العزف على وتر المشاعر الشعبية.

ومن ذلك أن القرآن الكريم أعلن عن حالة من التناقض تقع بين ما يقولون ويفعلون وقال « كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».

وهي مرحلة عصيبة أن تستولي على واجهة التمثيل جهات تخالف في سلوكها مضمون الشعارات التي تحملها باسم الشعب، فالجهات المطالبة بالديمقراطية، والداعية إلى الحريات والحياة المدنية يجب أن تتوفر فيها صفات احترام الحريات، وحقوق التعبير والتفكير للغير، لا أن تشيطن الرأي الأخر، وان تبالغ في تقديس رأيها، وتصد الأسماع سوى عن نفسها، والإنسان المدني الديمقراطي يستشعر أهمية التعددية، ودورها في بناء صورة متكاملة للحقائق، وليس سيادة وجه واحد لها عادة ما يكون مضلل.

والديمقراطية هي إطار قانوني، تمارس في داخله الحريات والحقوق العامة، وهي لا تمارس خارج حدود القانون، والمجتمعات المدنية تقدس القانون، والنظام العام، ولا يمكن أن يقر أفرادها بحق خرق القانون، أو ممارسة حرية إضعاف النظام العام، وإشاعة الفوضى، وبالتالي تتهدد الحريات، والمجتمع المدني برمته.

وهذه المجتمعات ليست باطنية فهي لها موقف واحد من الحريات، والديمقراطية وليست الحريات خاصة بجهة، وممنوعة عن غيرها. وانتحال صفة تمثيل الشعب غير واردة ذلك أن الناس تحتكم إلى صناديق الاقتراع التي تظهر – في ظل انتفاء التزوير- من يحظى برنامجه بالإجماع، أو يجد قبولا عند جمهور الناخبين، وهنالك تتنافس الأحزاب في برامجها بما يخص مختلف جوانب حياة الإنسان، ولا يتم حصد التأييد من خلال المشاعر الدينية أو التعصب، وهنالك مصداقية في تقدير الإمكانيات، واستحالة الهيمنة على الحياة العامة بالصوت العالي، وتجد اليوم في حياتنا السياسية التي يكتنفها الخلل كلما فشلت فعاليات الشارع، ولم تجد التأييد الكافي لها يتم رفع سقف الشعار، وتزيد مساحة انتحال صفة تمثيل الشعب زورا وبهتانا بدافع التحدي لا غير.

وفي الحياة المدنية لا تمارس الأحزاب، وقوى المجتمع المدني الغطرسة، والمكاسرة الاجتماعية، وإنما يتحرك الجميع في المساحة القانونية المتاحة للعمل العام، ويعمل التنظيم على زيادة حصته من الرأي العام ، لتجسيد الإرادة الشعبية في المؤسسات.

نحن لا نعاني في دولنا من فشل في عمل السلطات السياسية، والية عملها فقط، وإنما في القوى الداعية إلى إصلاح الحياة السياسية، ذلك أنها تعتمد ذات النظرة الشمولية في الاستحواذ على السلطة، ومنع الحريات، وتفصيل مقاسات للعمل العام على مقاس كل جهة تماما كما هي السلطة.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   رشاد أبو داوود   جريدة الدستور