ثمة نزوع في العديد من التغطيات والتحليلات الإعلامية المحلية والخارجية إلى اختصار "الصراع السياسي" داخل الأردن، بالأزمة بين "الدولة" والإسلاميين، باعتبارهم القوة الأكثر تنظيماً وتأثيراً في الشارع.
هذه القراءة تختزل بصورة مشوهة مساحاتٍ واسعة من الصراع، وتقفز عن الأشكال والصور الجديدة من المعارضة السياسية، التي تجاوزت جماعة الإخوان، وباتت بالفعل تشكل العمود الفقري للمعارضة السياسية في البلاد، وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة أو معلنة صراحةً!.
المعارضة الجديدة في الساحة السياسية هي "المولود الشرعي" للسياسات الاقتصادية التي أخذت في التسارع والاتساع لتصوغ طبيعة المشهد السياسي والاقتصادي على السواء، وشكلت في الشهور الأخيرة مدار السجال والمناظرة الحقيقية في المشهد الوطني، على مستوى النخب والشارع.
يمكن التقاط الوجه الجديد للمعارضة الأردنية من خلال محورين رئيسين؛ الأول هو الوجه السياسي الذي يمثله "التيار المحافظ" (المحافظة هنا بمعنى الدفع باتجاه حماية قواعد اللعبة السياسية التقليدية التي تهددها السياسات الاقتصادية الجديدة)، والوجه الراديكالي ويمثله ما يسمى بـ"التيار السلفي الجهادي"، الذي ينتشر أيضاً في العديد من المدن والقرى.
مؤسسة البرلمان هي أبرز معاقل التيار المحافظ اليوم، وإذا كان انحسار الوجود الإخواني تحت قبة البرلمان أدى في المرحلة الأولى إلى شغور موقع المعارضة، فإنّ هذا الموقع سرعان ما عاد إلى حيويته وفعاليته، وبصورة أكثر حدية من المعارضة الإخوانية، لكن هذه المرة من خلال النواب المحسوبين تقليدياً على أجهزة الدولة، والذين لم يستطعيوا أن يقفوا على الحياد وهم يواجهون بالغضب والإحباط من قبل قواعدهم الاجتماعية في كل المناسبات واللقاءات، كما يعترف عدد كبير منهم.
أزمة "بيع الأراضي"، والتي شكلت خلال الأسابيع الأخيرة قضية الرأي العام الأولى، متقاطعة مع أزمة الغلاء، هي التي فرضت نفسها على "نواب الاتجاه المحافظ" ودفعت بهم بقوة إلى موقع المعارضة. وإذا كان جوهر المعارضة انصب على السياسات الاقتصادية الحالية، التي لا تراعي الجوانب الاجتماعية والسياسية، فإنّ هذه المعارضة الجديدة، بدأت تعبر إلى المجال السياسي وتحتل مساحات فيه، ومن المتوقع في سياق المرحلة القادمة أن تتسع هذه المساحة وأن يشكل التيار المحافظ واجهة سياسية للمعارضة الجديدة.
مخطئ، بتقديري، من يحسب أن مواقف التيار المحافظ مرتبطة بصورة عضوية بما يسمى الصراع بين "مراكز القوة والنفوذ"، بل ثمة مؤشرات عديدة أنّ هذا التيار خرج من رحم هذه الأزمة تماماً، وهو يبحث عن وجود مستقل، قائم بذاته، وسيشكل عموداً فقرياً في المشهد السياسي إذا استمر المسار السياسي الحالي.
فليس من المتوقع أن تبقى الشريحة الاجتماعية الواسعة والعريضة التي تشكل الحاضنة الاجتماعية للتيار المحافظ صامتة ومغيبة ومؤيِّدة، وهي تجد مصالحها الاقتصادية والسياسية مهددة، إذ تنسحب الدولة من الحياة الاقتصادية ويتراجع دور القطاع العام اقتصادياً، وتبرز أقطاب مؤثرة داخل مطبخ صنع القرار، تحمل مواقف ورؤية سياسية متضاربة مع مصالح هذه الفئة ومكتسباتها التاريخية. فمن المتوقع عندئذ أن يتحرك التيار المحافظ كأحد مراكز القوة لهذه الشريحة.
إنّ التيار المحافظ لا يعكس أزمة "الصراع بين مراكز القوى" بقدر ما يعكس مصالح الشرائح الاجتماعية الواسعة التي يمثلها، ويعبر عنها في البرلمان، وتجد طريقها سهلاً بالتأييد المعنوي داخل مؤسسات الدولة. وهي الملاحظة ذاتها التي تنطبق على الاتجاهات السياسية الجديدة، وربما أبرز من يمثلها اليوم بوضوح هي الجبهة الوطنية، التي تتشكل من قيادات سابقة في البيروقراطية، على حد تعبير النائب والمحلل السياسي بسام حدادين، وربما تجد أشكالاً وصوراً أخرى مختلفة في المرحلة القادمة.
ويجد التيار المحافظ خصمه الرئيس فيما يسمى بنخبة "الليبراليين الجدد" التي تلعب دوراً بارزاً في السنوات الأخيرة في رسم الاستراتيجيات والمسارات الاقتصادية، وفرضت نفسها في المطبخ السياسي بقوة، بل ووضعت لها قدماً في البرلمان من خلال مجموعة من "رجال الأعمال" الذين ينحازون إلى القطاع الخاص، وتتقاطع مصالحهم الخاصة مع السياسات الاقتصادية الحالية.
الوجه الآخر للمعارضة السياسية الجديدة، لكن بصورتها الراديكالية، التي تقف موقفاً سلبياً عنيفاً من مؤسسات الدولة نفسها، هو التيار السلفي الراديكالي الذي يمثل في حقيقته "حركة احتجاج اجتماعية بوجه أيديولوجي ديني". ولا يخفى على المراقب وجود مجموعات هذا التيار بصورة خاصة في المحافظات ذات الثقل العشائري، وهي مجموعات وإن لم تكن منتشرة اجتماعياً ولا تحظى بقبول عام، إلاّ أنّها باتت ظاهرة مقلقة، ولها أبعادها ودلالاتها الأمنية والسياسية.
لا شك أنّ هنالك محركاً عقائدياً لدى أتباع "السلفية الجهادية" لكن هذا لا ينفي الدور الكبير الذي تلعبه الشروط الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية بدرجة موازية، في صعود هذا التيار ونموه، حتى وإن افتقد للبوصلة أو لأي برنامج أو خطاب واقعي، ومثّل، فقط، حالة من الاحتجاج الاجتماعي أو على الأقل انعكاساً لتدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية.
تغطس، بامتياز، وراء بروز المعارضة الجديدة أزمة المركز والأطراف وتنامي شعور أهل المحافظات بالتهميش والحرمان مقابل تضخم عمان الغربية وتطورها وجمالها وازدهارها.
بالتأكيد الدولة متنبهة لهذه المشكلة الحساسة، وهنالك محاولات للاستدراك بتدشين مشاريع في هذه المحافظات، إلاّ أنّ حجم الخلل مايزال أوسع بكثير من جهود الترقيع!.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد