آخر نزعات المشهد الإعلامي والسياسي تتمثل في تسييس موقف إنساني بامتياز، وإخراجه من الأعراف والتقاليد الأردنية المعروفة والمتوارثة إلى جعله موضعاً في السجال السياسي وامتحاناً لـ"صراع مراكز القوى". وفي هذا افتئات وتعدٍّ على قوانين المجتمع التي تميّز بها الأردنيون على العديد من المجتمعات.
من هذه الزاوية، تحديداً، يمكن النظر إلى محاولة البعض توظيف حالة عزاء والدة د. باسم عوض الله، رئيس الديوان الملكي. وهي محاولة تتناقض مع ثقافة اجتماعية أردنية مستقرة ومتوارثة تتمثل في المشاركة بالمناسبات الإنسانية المختلفة، والترفع عن جميع الخلافات السياسية والشخصية.
يندر أن تجد عزاءً أردنيا أو مناسبة اجتماعية وإنسانية لشخصية سياسية أو عامة، في الحكم أو المعارضة، لا تجد فيها شخصيات من كافة ألوان الطيف الفكري والسياسي يشاركون ويتواصلون إنسانياً واجتماعياً.
هذا "استثناء" يجعل من الأردن حالة عربية خاصة متميزة، مقارنة بدول ومجتمعات عربية تستغرق في الخلافات السياسية والعرقية والطائفية العلاقات الاجتماعية، وتدمر روح المواطنة والتواصل الإنساني والاجتماعي، وتجعل من المجتمع جزراً متحاربة متفرقة.
من يستنشق هواء الأردن النقي يدرك تماماً أنّ الميزة الأساسية للمجتمع الأردني هي التسامح السياسي، وإعلاء التواصل الإنساني والاجتماعي فوق كل الخلافات والمعارك والصراعات السياسية.
فضلاً أنّ الشريحة الواسعة من المجتمع الأردني ليست مطلعة على "خلفيات" السجال السياسي الحالي، وليست معنية به، وهي في مشاركتها بالعزاء تنطلق من مشاعرها الإنسانية الطبيعية ومن تقديرها لموقع عوض الله باعتباره رئيساً للديوان الملكي. فلا تسجل زيارتها لبيت العزاء في لعبة "الأهداف السياسية" التي يراد لها أن تستغرق المشهد العام بأسره.
يبدو أنّ الحملة الممنهجة تسير بانتظام، من مرحلة إلى أخرى، وتغتال في طريقها كل ما له علاقة بـ"مشترك جمْعي" للأردنيين، إلى درجة "انتهاك" خصوصية المواقف الإنسانية، وتوظيفها سياسياً، في بناء حالة من الاستقطاب السياسي والإعلامي!
شخصياً، قمت بتعزية د. عوض الله، من منطلق التواصل الإنساني والاجتماعي، بعيداً عن أي دلالة سياسية، ودون أن يعني هذا بالضرورة أنني أتفق معه، أو أنني أتراجع عن اختلافي مع موقفه في العديد من الملفات الحيوية. وأعتقد أنّ ذلك ينطبق بصورة عامة على الأغلبية الكبرى ممن قاموا بالتعزية، سواء كانوا في الطبقة السياسية والإعلامية أم كانوا من عامة الشعب.
فمن يرصد المشهد السياسي والإعلامي اليوم يجد أنّ إحدى الخطايا الكبرى التي يتم اقترافها اليوم بحق الوطن من البعض هي تقزيم كل السجالات الوطنية والسياسية التي تدور باعتبارها تجليّاً للنزعة الإقليمية و(الشخصنة) أو صراع مراكز القوى.
ولا يتردد "البعض" في إدعاء أنّ سقف الانتقاد والمعارضة المرتفع ضد سياسات معينة يعود للعبة الاستقطاب وكسر العظم. وكأنّ الصحافة الأردنية طارئة على السجال السياسي، لم يسبق لها المشاركة فيه.
أصحاب هذه الدعوى، فضلاً أنّهم يشطبون بجرة قلم تاريخ الصحافة الأردنية، ويلغون أي دور لها سابقاً ولاحقاً، فإنّهم يتناسون أنّ الأقلام التي تنتقد اليوم قضايا الفساد وتتحدث عن سؤال "الولاية العامة" للحكومة هي الأقلام ذاتها التي وقفت بصلابة ضد الانتهاكات في الانتخابات البلدية والنيابية، وهي التي دافعت عن الانفتاح السياسي، وهي التي تتحدث باستمرار عن قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات العامة، وترفع حالياً شعار الفصل بين الإدارة العامة و(البزنس). وهنالك "ذاكرة إعلامية" تسجل مواقف الجميع بعيداً عن الدعاوى والإدعاءات.
فالأقلام التي سجّلت مواقف وطنية واضحة وصريحة، في معارك أخرى، خلال المرحلة السابقة، هي ذاتها تقف اليوم في معركة سياسية بامتياز، بعيداً عن محاولات تجيير ذلك تحت عناوين خاطئة تلقي بظلال اجتماعية خطرة وحساسة، وتترك آثاراً سلبية على المزاج العام.
الأردن كبير، بل وكبير جداً، بتقاليده المتوارثة وبقوانينه الاجتماعية والمساحات المتاحة للحركة والاختلاف السياسي والثقافي، ومن المحزن، بل والمحزن جداً، أن يحاول بعضهم تعكير ماء النهر الصافي من شماله إلى جنوبه باختلاق معارك صغيرة، فضلاً عن أنّها تضليل يعمل دور معول الهدم في الروح الوطنية!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد