ثمة ضرورة للتوقف مليّاً وبجدِّية مع التصريح المهم والخطر من العلاّمة الأردني والأكاديمي المخضرم د. عدنان البخيت، إذ قرع جرس الإنذار وحذّر بوضوح من انهيار العملية التعليمية في الجامعات بصورة كاملة عندما قال: "الجامعات تلفظ أنفاسها الأخيرة".
هذا التصريح ليس من هاوٍ ولا ممن لا تاريخ يشهد له، إنّما من أحد أعمدة التعليم العالي في الأردن، ممن يملك تجربة غنية وخبرة مشهودا لها بالنجاح والإبداع، فهو يتحدث عن معرفة وإدراك لكل كلمة يقولها ويشهد لها الواقع بأنامله العشرة.
هل يبالغ البخيت ويضخّم المشكلات التي وصلت إليها الجامعات؟..
الجواب على ذلك يكمن في المؤشرات الواقعية؛ مستوى الانتاج العلمي والبحث في الكليات المختلفة، بخاصة الإنسانية والاجتماعية، إذ نتحدث عن أرقام مخجلة، والجواب في التراجع العام المرعب في مستوى التدريس والمعلمين وفي مستوى وعدد الدراسات المحكّمة لهم، وفي مستوى الطلاب التعليمي والثقافي.
الحياة الجامعية، نفسها، أصبحت أقرب إلى "صراع الحارات والعشائر"، مع غياب الحوار الفكري والثقافي والسياسي عن المنتديات الجامعية، وبروز حالة من الفراغ التي تُملأ إما من خلال جيل "غير منتمٍ" فارغ من أي رسالة ولا يشعر بأي دور، أو مجموعات متطرفة تنمو في الهامش تستقطب عدداً من طلابنا باستثمار "الفراغ الثقافي".
البخيت في تصريحه المهم لفت الانتباه، أيضاًَ، إلى مسألة مهمة حول ما يسمى "مجالس أمناء الجامعات". لكن في الواقع فإنّ أغلبها "غير مؤتمن" على الجامعات، ولا مؤهل لوضع قيم هذه الجامعات ورسم أهدافها وسياساتها، مما يوجب إعادة النظر في فكرة هذه المجالس وشروطها.
هذا يقود إلى قضية أخرى في تصريح البخيت لم تنل ما تستحق من النقاش تتعلّق بالجامعات الخاصة، إذ يعتبر البخيت أنّها "أصبحت خطراً على التعليم العالي"، وهذا عموماً صحيح.
فالجامعات الخاصة تخضع لمعايير الربح والخسارة ولحسابات القطاع الخاص، وهي حالة مختلفة تماماً عما هو موجود في دول العالم المتقدمة، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية التي يوجد فيها قرابة ألفين وخمسمائة جامعة بين حكومية وخاصة.
الجامعات الخاصة الأميركية لا تدار بأسلوب الربح والخسارة، إنما من خلال الوقف الذي يرصده القطاع الخاص والأثرياء للجامعات، لبناء عملية تعليمية قوية ومتينة، بينما تترك سياسات الجامعة وشؤونها الداخلية للخبراء الأكاديمين ولأهل التخصص، وليس لتاجر أمّي لا يعرف القراءة والكتابة يتحكم في مدخلات الجامعات ومخرجاتها، بما يحقق له الربح، ولو على جثة العملية التعليمية وعلى حساب مستقبل عشرات الآلاف من أبنائنا!
إلى الذين يتباكون من نفقات الجامعات في الأردن، ويجادلون بتخصيص التعليم العالي يكفي التذكير أنّ قيمة الوقف في جامعة هارفارد، وحدها، تصل إلى ثلاثة وخمسين مليار دولار، أي ما يعادل ميزانية عدة دول في العالم. وتُدار الجامعة من مجلس إدارة يتكون من خبراء عالميين في هذا المجال، وتخضع مدخلات العملية التعليمية ومخرجاتها لسياسات مدروسة ومبنية على قراءة دقيقة لأهداف التعليم العالي ودور الجامعات وتطورات المعرفة والنظريات العلمية وطبيعة التخصصات المختلفة.
حتى الرسوم الجامعية فإنّ عدداً من أقضل الجامعات الأميركية تراعي عدم قدرة العديد من الطلاب من تسديد الرسوم، فتخلق نظاماً من المنح التي تساعد المتفوقين على توفير شروط مناسبة للدراسة والإبداع، وتراعي طلاباً آخرين، غير قادرين على تسديد الرسوم، من خلال نظام الأقساط المريح.
فلا يجوز أن يكون الهدف من التعليم الجامعي الربح السريع لأنّ هذا بلا شك سيكون على حساب العملية التعليمية ومستواها ونوعية الطلاب، ما سيحرم الطاقات المؤهلة حقاً من اتمام التعليم الجامعي، بسبب عدم القدرة على تسديد الرسوم الجامعية، فضلاً أنه يحرم المجتمع من طاقات كامنة يمكن أن تكون رافداً مهماً للاقتصاد الوطني.
للآسف فإنّ دعوات تخفيف حمولة العبء المالي للجامعات بدأت تغزو الجامعات الحكومية لدينا، التي بدأت بأساليب متعددة ومختلفة ترفع الرسوم وتتحايل على الرأي العام، وكأننا أمام عملية "خصخصة للجامعات الحكومية" نفسها. وهذا الاتجاه في التفكير مدمّر للتعليم العالي.
فإذا كنّا أمام مفاضلة حقيقية بين صرف النفقات على التعليم والجامعات أو بناء العمارات الشاهقة ورصف الشوارع وتجميلها؛ فإنّ الأولية حتماً، بلا نقاش، هي للتعليم العالي، فإذا خسرنا الإنسان أيُّ ربح بعده؟
 المفارقة أنه على الرغم من الخلوات والاستراتيجيات والقرارات والضجة الإعلامية خلال الشهور السابقة إلاّ أنّ واقع الجامعات ما يزال يسير نحو الأسوأ، ويتردّى يوماً بعد يوم، مع عجز واضح عن إيقاف ذلك أو في تحقيق قفزة نوعية إلى الأمام.
لماذا؟..
باختصار، وبلا مواربة أو تحايل على الجواب، فإنّ السبب يعود لعجز القائمين على مسار التعليم العالي اليوم عن بناء رؤية الاستراتيجية في إصلاح الجامعات أو تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع. سواء على مستوى الوزارة أو على مستوى إدرات الجامعات.
الحل الحقيقي هو استبدال هذه النخبة بنخبة جديدة تمتاز بالخبرة والكفاءة والحرص على الوطن وعلى مسار التعليم العالي، الذي يشكل رافداً رئيساً وأساسياً للاقتصاد الأردني، فضلاً أنه تاريخياً بمثابة مجال استثمارنا الرئيس، وهو في الوقت نفسه معقل تركيز واهتمام الدول المتقدمة والصاعدة، فالمعرفة اليوم هي اساس الاقتصاد وعموده الفقري.
إذا أرادت الحكومة المضي بصورة فاعلة وجِدِّية في إصلاح التعليم العالي فإنّ الشرط الأول تسليم الملف لأهل الكفاءة والخبرة. أمّا الشرط الثاني فهو ضمان استقلالية التعليم العالي وإدارات الجامعات بالكلية عن التدخلات الخارجية، السياسية والاجتماعية، وهي التدخلات التي أرهقت الجامعات وكانت سبباً رئيساً في ترهلها وتراجعها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد