سنوات مضت على ذلك اليوم الذي قضى فيه صديق لي نحبه في حادث سيارة نقل كبيرة، وقد اثر أن يستخدم هذه الوسيلة المجانية للنقل توفيرا لدفع أجرة الباص. وقد تعرض “الترك “ الذي يقله إلى حادث مأساوي أودى به في عز شبابه، وترك أطفالا صغارا وسكن راضيا وحشة القبور، وانتهى حزنه ، وكان ينأى بحمل عائلة لا يكاد راتبه يكفي لإطعامها. كان صديقي فقيرا بامتياز وكل أمله أن يأتي شهر ولا يكون قد استدان أكثر من ثلثي الراتب مقدما. وفي كل شهر تدفعه الحاجة إلى الاقتراض، ومد اليد للمعارف والجيران. وقد قضى نحبه دون أن يحقق حلمه البسيط على الأرض، ومضى، وتلاشى في قصة هذا الوطن الذي يتبدى اليوم في مأساة مناطق الفقر والحرمان التي تسمى الهوامش. وهي تختصر حكاية مواطنين أردنيين يحملون أحلاما بسيطة تتعلق بتوفر متطلبات العيش الكريم، او تحصيل حد الكفاف ، في ظل ازدياد أعباء المعيشة وارتفاع الأسعار، ومحدودية الرواتب، وارتفاع تكاليف التعليم الجامعي، ووجود متطلبات رئيسة لا مناص من تحقيقها للأطفال والعائلة ولا قدرة للمعيل على التنصل منها مهما كانت الظروف.

وأنا لست ادري متى ستأتي حكومة تكرس عملها في سبيل تطوير حياة الفقراء الذين يفقدون طريق المستقبل، وتعنى بالنهوض بهذه الشريحة التي تخسر إنسانيتها بحكم الظروف، وهم ينظرون إلى الحد الأدنى في الحياة، فأبناء القرى الأردنية البائسة لا يتطلعون إلى الفلل والقصور والشركات والحسابات البنكية والسيارات الفاخرة والدراسة في الجامعات الغربية، وليسوا معنيين بالنوادي، والشلل الراقية، والسياحة في دول العالم، وتغيير الأثاث في كل عام على ذوق المدام، ولا يملكون الكلاب المدللة، أو تقوم على خدمتهم السرلينكيات، وليسوا في وارد البحث عن الموقع الاجتماعي المرموق، والتلميع الصحفي، وتولي المناصب الوظيفية العليا، وأبناؤهم لا ينظرون إلى الاعلى، وإنما ينظرون من قلب هذا الوطن المثقوب. ولكنهم من حقهم أن يعيشوا بكرامة، وان يصار إلى تنمية مناطقهم أسوة بالمناطق المحظوظة، وان تأخذ حظها من التطوير والخدمات، وان يصار إلى وضعها على الخريطة الاستثمارية، وتقديم حوافز من خلالها للمستثمرين، وان يشاركوا بالاستفادة من الثروات الطبيعية في مناطقهم، ومن حق خريجيهم أن يجد احدهم عملا متواضعا كي يعيلوا الأسر التي تفتقد طعم الحياة في بعض جيوب الفقر، والتي ضاقت بهم الأرض بما رحبت حتى تخرجهم، ومن الآباء من باع الأرض والمتاع لتدريس أبنائه في الجامعة ليقضوا السنوات بعد شدة المعاناة بلا عمل، ومن حق مناطق الهوامش أن يصار إلى تجديد بنيتها التحتية، وتفقدها من حيث الطرق وشبكات المياه، والكهرباء حيث هنالك أسرٌ ما تزال تستجدي ايصال التيار الكهربائي لبيوتها منذ سنوات، وقرى لا تجد الماء إلا عبر تنكات السلطة شهريا بواقع تنك لكل أسرة بعشرين دينارا، وكذلك المراكز الصحية، والخدمية والمدارس، وإدخال المناطق الصالحة للسياحة إلى دائرة الجذب السياحي وتطوير بنيتها للقيام بهذا الدور الذي يعود بالفائدة على سكانها، ولا حاجة لذكر المناطق المهملة سياحيا في المناطق الهامشية. وهذه المناطق معزولة عن العاصمة عمان، وتكاد تفقد طرق التواصل مع المسؤولين لإيصال صوتها واستصدار القرارات التي تعمل على مساعدتها معيشيا حيث تعرضت قطاعاتها المنتجة للدمار دون قدرة على وقف المأساة ومن ذلك توقف القطاع الزراعي الخاص بزراعة المحاصيل الحقلية عن الإنتاج على الأغلب، وتعرض مربو المواشي إلى جفاف المواسم الزراعية ونقص في الأعلاف؛ ما هدر الثروة الحيوانية، وتكالبت فوائد القروض على المزارعين للمناطق المروية وعدم قدرتهم على مواصلة جانب من الإنتاج بسبب ارتفاع التكاليف مع غلاء مادة الوقود، وهو ما يتطلب خطة وطنية لاستنقاذ القطاع الزراعي واستعادة إنتاجيته، ومساعدة المزارعين على الاستمرار بهذا القطاع بدلا من تحول العاملين فيه إلى صناديق المعونة الوطنية. ويمكن إدخال المناطق المجاورة للسدود المقامة حديثا إلى دائرة الأراضي المروية وتوسيع إنتاجية هذه الأراضي من المحاصيل الحقلية.

تحتاج المناطق المهمشة إلى خطة وطنية عاجلة لوقف المشاعر السلبية التي تجتاحها على خلفية الفقر والحرمان، والحفاظ على مستوى لائق لسكانها ومساعدة العاطلين عن العمل من الشباب، وإيجاد سبل الإسناد المالي للآباء الذين يرزحون تحت طائلة التعليم الجامعي، وكذلك إشعارهم بالكرامة الوطنية من خلال إدراجهم في خانة اهتمامات المسؤولين، وتفقد حياتهم، واستشعار حرارة شكاواهم، وأحقيتهم بالعيش الكريم؛ وذلك تجنبا لأن نفقدهم للمرة الأخيرة.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   رشاد أبو داوود   جريدة الدستور