كيف نقرأ المشهد في غزة اليوم؟..
هل يتمثل بحركة سياسية تصر على الزج بشعبها إلى أحضان الموت لأجل عيون إيران وسورية؟ أم قوة عسكرية محترفة تمتلك قدرات عسكرية وأمنية وسياسية هائلة قادرة على مواجهة آلة الدمار الإسرائيلية الدموية؟ أم شعب مؤمن بحقه في الحياة لكنه يساوي بينه وبين حقه في الحرية والكرامة الإنسانية، ومستعد لدفع الثمن كاملاً؟..
أسلوب صوغ السؤال يحدد طبيعة الجواب.
من يرى أنّ ما يحدث هو ضريبة يدفعها الغزيون لحسابات حماس السياسية ولارتباطها بالمحور الإيراني، يخوّن أغلبية الشعب الفلسطيني الذين اختاروا حماس، ويغلّب خلفيته السياسية والثقافية على الهم الوطني العام، ويقتطع تياراً واسعاً أصيلاً من الشعب الفلسطيني يمتلك قاعدة اجتماعية عريضة.
وفي هذا الطرح خلط للأوراق وممارسة خداع سياسي وإعلامي. فحماس تدفع الثمن قبل أن يدفعه الغزيون من دماء أبنائها وشبابها، ودفعت كذلك بأرواح قياداتها التاريخية، وهي اليوم تزج بقياداتها السياسية والعسكرية إلى محرقة آلة الاغتيالات الإسرائيلية.
من يطرح هذا الطرح يقفز، ثانياً، على البديل؛ إذا كان الشعب الفلسطيني بين خيار الصبر والتضحية والالتزام التاريخي بعدم التفريط في حقوقه وحقوق أبنائه في ظل الاختلال الحالي في موازين القوى وبين خيار الاستسلام والركوع والتسليم لإسرائيل وشروطها المذلة في ظل حالة من التواطؤ أو العجز الرسمي العربي المذل، فأي الخيارين أفضل؟!
هذا لا يعني أنّ حماس مقدّسة لا يجوز نقدها أو الاقتراب منها، بل ثمة أخطاء استراتيجية كبيرة ارتكبتها وترتكبها الحركة، لكن الخلاف السياسي معها شيء واختزال المشهد في غزة بسياسات الحركة وتخوينها واتهامها جزافاً شيء آخر.
في المقابل، أحسب أن حركة حماس لا تدّعي أنها قوة عسكرية مدمّرة وتملك الرد الكافي على إسرائيل، وذلك على الرغم من خطاب بعض المؤيدين للحركة من سياسيين وإعلاميين، من يرفعون سقف التوقعات ويمارسون الأخطاء نفسها التي حدثت سابقاً في تضليل الرأي العام.
فما تملكه الحركة هو صواريخ محدودة الآثر مقارنة بالآلة العسكرية الإسرائيلية وكذلك روح فدائية بطولية وقدرات مشهودة لأبنائها في الاشتباك المسلّح مع القوات البرية الإسرائيلية.
بالتأكيد، لا يوجد ميزان قوى ولا توازن رعب، وقدرات الحركة في تنفيذ العمليات الاستشهادية في قلب الكيان الإسرائيلي تراجعت بصورة واضحة، فضلاً عن حصار جغرافي كامل من جيمع الجبهات، وتواطؤ دولي، وانقطاع الدعم اللوجستي، مما يجعل المقارنة مع حرب تموز 2006 ظلم شديد.
إذن، مرة أخرى، كيف نقرأ المشهد في غزة؟..
هو، باختصار، ملحمة إنسانية كبيرة ومشرّفة يقدّمها الشعب الفلسطيني دفاعاً عن كرامته وحريته في مواجهة عدوان بربري غاشم يستبيح كافة المحرمات الإنسانية.
هو ملحمة تسطر في التاريخ بماء النور، تُروى للأجيال القادمة عن صمود وشجاعة وقرار شعب بالتضحية في كل ما لديه دفاعاً عن أرضه ووطنه، بدلاً من الاستسلام والخضوع للاحتلال.
المسألة أكبر من حماس وتتجاوزها، هي محاولة فرض شروط واقعية إسرائيلية جديدة حتى على طاولة المفاوضات، بعد أن تنهي إسرائيل تماماً روح المقاومة الفلسطينية وتُخرج هذا الخيار من دائرة الحسابات الاستراتيجية بالكلية..
بعد ذلك من نلوم؟..
فحماس مهما اختلفنا معها، ومهما ارتكبت من أخطاء، تبقى حركة إسلامية وطنية مكافحة، اختارت التمسك - ولو سياسياً- بخيار المقاومة وإبقائه في الساحة..
اللوم أولاً وأخيراً يقع على النظام الرسمي العربي الذي ترك غزة تواجه هذا المصير، وتخوض هذه الملحمة التاريخية المشرّفة بصدرٍ عارٍ وقلب مؤمن، بينما هو يعجز عن استثمار هذه الملحمة سياسياً أو خوض حتى معركة دبلوماسية مشرّفة على أقل تقدير؟!
خطورة الخطاب السياسي والإعلامي الذي يستمر في هذه اللحظة التاريخية المصيرية بإلقاء اللوم على حماس أنه أصبح جزءاً من الحرب النفسية الخطرة في تدمير الروح المعنوية لغزة ولحماس وللشعوب العربية.
ذلك الخطاب لا يخدم الآن إلاّ المشروع الإسرائيلي بفرض خياراته السياسية والعسكرية، وحتى الثقافية علينا جميعاً، فلا يبقى أمامنا لاحقاً إلا الاستسلام السريع أو البطيء؟!
نصر غزة اليوم يكمن في صبرها ومصابرتها ومرابطتها، برغم النزيف. أما مسيرات الشارع العربي ومظاهراته وحركاته فهي موقف سياسي ورسالة حيوية ستستمر ما دام العدوان، فهو موقف يعزز من روح الصمود لدى أبطال غزة، ويعتبر جزءاً لا يتجزأ من المعركة السياسية والإعلامية والحرب النفسية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد