منذ اللحظة الأولى لاستلام مهامه وجّه أوباما رسائل مباشرة وصريحة تبرز ملامح استراتيجيته الجديدة في "الحرب مع القاعدة"، التي مثّلت العنوان الأبرز للسياسة الأميركية خلال سبعة أعوام من عهد الرئيس بوش.
أوباما أشار في خطاب التنصيب إلى استعادة "القوة الناعمة" الأميركية، التي تآكلت خلال العهد السابق، وتراجع سحرها كثيراً لدى شعوب العالم، وأصدر قراراً فورياً في عدم استخدام أساليب التعذيب مع معتقلي القاعدة والإقلاع عن القيام بانتهاكات تحرمها المواثيق الدولية، لكن أجازتها مرحلة وزير الدفاع السابق رامسفيلد.
بلا شك، فإنّ أوباما مضطر إلى التعامل مع إرث بوش في "الحرب على الإرهاب"، على الأقل في إطفاء الحرائق المشتعلة في مناطق مختلفة، وفي مواجهة مصادر التهديد للأمن القومي والمصالح الأميركية، لكن ليس من المتوقع أن يستأنف أوباما هذه الحرب في سياقاتها الحالية ومضامينها الواسعة العالمية التي جعلها المحافظون الجدد عنواناً للسياسة الخارجية الأميركية الجديدة في العالم بأسره.
فقد اتخذت الحرب على الإرهاب أبعاداً حيوية واستراتيجية على صعيد السياسة الخارجية والداخلية الأميركية على السواء، سوف تذوي أغلبها وتنتهي بعد فترة قصيرة، إلاّ إذا تمكّنت القاعدة من القيام بعمل كبير نوعي يعيد قلب الحسابات والأولويات الاستراتيجية من جديد.
الاختلاف الجوهري بين أوباما وبوش يكمن في الأولويات، فأوباما يواجه أزمة اقتصادية خانقة تحظى باهتمام الأميركيين وتهدد اقتصاد البلاد، فضلاً عن إضعاف مكانتها العالمية، بينما كان الأمن هو الأولية الرئيسة لإدارة الرئيس بوش طيلة السنوات السبع السابقة (بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر).
التحول المتوقع الأهم هو الخروج من شرنقة التعبئات الدينية المتقابلة. فأخطر ما في "الحرب على الإرهاب" أنّها أخذت طابعاً "ثقافياً- حضارياً" غير مباشر، لكنه فاعل بتأثير هيمنة الأصوليات (الإسلامية- القاعدة، المسيحية- المحافظين الجدد) على مجمل التطورات السابقة، ما عزّز من منظور صراع الحضارات، ونقله من مجرد طرح نظري محدود إلى حالة ثقافية تستغرق شرائح واسعة من المجتمعات.
على الرغم من أن أوباما سيستمر في الحرب مع القاعدة في مناطق انتشارها، وسوف يبقي على الحذر الأمني الأميركي في مستوياته العليا، إلاّ أنّه لن يضخ مزيداً من الوقود في هذه الحرب، من خلال الآلة الدعائية والإعلامية أو حتى ابتكار ساحات جديدة للمواجهة.
ولعلّ أهم ما سيتم التقاطه خلال المرحلة القادمة نهاية لعبة "صناعة الرعب" التي أتقنها المحافظون الجدد وأدواتهم الإعلامية والفكرية لتسويغ الحرب على الإرهاب، حتى على مستوى انتهاك الحريات وحقوق الإنسان للأقليات المسلمة داخل الولايات المتحدة نفسها، ما صبغ جزءا من سياساتها بطابع "الدولة البوليسية" وأعاد التذكير بسنوات "المكارثية".
أمّا العنوان الرمزي الأبرز لنهاية الحرب على الإرهاب في سياقاتها الحالية، فسيكون إغلاق "سجن غوانتنامو" وإنهاء عصر استباحة المحرمات الإنسانية من تعذيب وسجون ومعتقلات سرية كانت جميعها علامة دامغة في سجل إدارة بوش التاريخي.
بالضرورة لن تنتهي القاعدة غداً، فسوقها لا تزال قائمة بفعل عوامل عديدة في مقدمتها الأزمات الخانقة في العالم العربي، ولن تخمد المعارك العسكرية والأمنية معها هنا وهناك، لكن الأهم أنّ المقاربات والمنظورات التي حكمت إدارة بوش وساهمت في تضخيم القاعدة، بل تزويدها بمبررات وجودها ومسوغات خطابها ستنتهي قريباً، وسوف يعود أوباما إلى "المدرسة الواقعية" في السياسة الخارجية التي تجعل من موازين القوى والعلاقة مع الحكومات والدول المختلفة معياراً رئيساً في صنع القرار بعيداً عن المنظور الأيديولوجي والإلهامات الدينية التي تملي على بوش شعوراً بالمهمة الدينية والتاريخية المناطة به!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد