في إحدى لطائف أدبنا العربي كان رجل يسمى (شنن) مشهورا بالفطنة والذكاء، وعزم ألا يتزوج إلا بمن تضاهيه في العقل وسرعة البديهة، وأخبر عن رجل عنده ابنة يتحدث الناس عن ذكائها، فرحل معه وفي الطريق قال له أتركبني أم أركبك؟ فتعجب الرجل من سؤاله، وانطلقا، ثم رأى جنازة فقال أهذا الرجل حي أم ميت؟ فقال ألا ترى إن الناس يحملونه، ثم ذهب الأب لابنته ليخبرها عن الخاطب الذي يقال عنه إنه ذكي وأسئلته بخلاف ذلك، ففسرت له غوامض الكلام، وقالت له إن المقصود بسؤاله أتركبني أم أركبك أي تحدثني أم أحدثك، فإن الحديث يقصر الطريق، وإن قوله عن صاحب الجنازة أحي أم ميت أي هل ترك هذا الرجل أثرا بعد موته يذكر به أم لا؟ ففهم الرجل وتزوج شنن من طبقة وصار المثل العربي الشهير وافق شنن طبقة
والرابط ببين هذه الحكاية اللطيفة وموضوع الحديث عن الزمن أن الرجل سأل رفيقه عما يقصر المدة أو لا يجعلهما يفكران في طول الطريق، والمسامرة لا تقصر الزمن وإنما تشغله، وهذا دفع ببعض اللاهين لاختيار مسليات تشغل الإنسان عن التفكير في الطعام في رمضان وقالوا (سلِّ صيامك) وسأل شنن أيضا عما ترك الميت في حياته من استثمار للزمن حتى يذكر بعد وفاته، فالناس صنفان: موتى لا حياة لهم...وآخرون ببطن الأرض أحياء
إن الزمن هو الحياة وعليه تدور عجلتها، فهو آية من آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق، ذكره الله في القرآن صريحا وضمنيا، فأقسم بالشمس والفجر والضحى والليل، وذكر بآيات الليل والنهار وما فيهما من نعم، وذكر الصباح والمساء والمبيت والعشاء، والظهيرة وأوقات كثيرة، وكان في السنة محور ها في القول والفعل والتقرير، وعليه تدور الأحداث في كل عصر ومصر،
والزمن به عمل الإنسان الذي يفضي إلى الثواب أو العقاب في الدنيا والآخرة، ومن ثم كان هذا الزمن محور عدد من الدراسات التي اتسم بعضها بجانب من الجمع للآثار في مكان واحد كما فعل ابن أبي الدنيا في كتابه (كلام الليالي والأيام) حيث جمع كما من الآثار التي فيها كلام على لسان الليالي والأيام مثل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلا وَبِجَنْبِيهَا مَلَكانِ يُنادِيانِ، يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُم إلا الثَّقَلَينِ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقا خَلَفا، وأعْطِ مُمْسِكا تلَفا".
وكانت هناك دراسات تخصصية تتناول دور الزمن في تخصصات تكون علمية دقيقة كما فعل الدكتور أحمد زويل في بحثه عن الفيمتو ثانية ونال عليه جائزة نوبل، أو في دراسات فقهية كما فعل الدكتور محمد الجمال في دراسته للدكتوراه عن الزمن وعلاقته بالبيع والربا، أو في دراسات أدبية كما فعلت الدكتورة فاطمة محجوب في دراستها عن الزمن والشباب، أو في دراسات لغوية كدراسة الدكتور محمد الريحاني عن اتجاهات التحليل الزمني، أو في دراسات فلسفية مثل دراسة فيدرر التي بعنوان السؤال عن الزمن، فضلا عن روايات اتخذت الزمن عنوانا لها مثل رواية حديث الصباح والمساء، وحديث الأربعاء لطه حسين.
وما نتناوله في هذه المقالات فكرة مختلفة عن كل تلك الدراسات، فليست هذه دراسة تخصصية في مجال اللغة أو الأدب، بل دراسة تثقيفية تأخذ لطائف القول والتحليل في الزمن، كما استهللنا المقال، ونتتبع سير من حافظ على الزمن واستثمره، فكانت حياته مليئة بالإنجازات الكبرى التي استعصت على كثيرين أن يأتوا بمثلها أو بجزء منها، فقد يعيش الإنسان دهرا طويلا ولكنه يخرج من الدنيا ولا أثر يذكر له، وهناك من يعيش عمرا قصيرا ويبارك الله له في عمره فيستثمره ويبدع للإنسانية ما تذكره آمادا طويلة.
إن المتتبع لكثير من سير العلماء يرى أنهم لم يعمروا طويلا، وأنتجوا كثيرا من علم نافع، فسيبويه صاحب أقدم كتاب في النحو توفي وعمره ثلاث وثلاثون سنة، فكيف وصل إلى هذه المرتبة وهل له أقوال في الزمن، والشافعي مات وعمره اثنان وخمسون عاما، وأقام مذهبا فكيف استغل عمره وما آثاره في الزمن؟ وابن تيمية والبخاري و....كثيرون عاشوا فترة قصيرة ولكنهم استثمروا الزمن بصورة متميزة.
إننا نتأمل في عصر النبي والصالحين فنرى عجبا، نرى إعجازا وإنجازا في تاريخ البشرية؛ حيث أقام المسلمون حضارة كبرى في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئا، فكيف تسنى لهم ذلك وما أقوال أولئك الأفذاذ في الزمن وكيف كانوا يقضون أوقاتهم، وهل كان عندهم فراغ للعب واللهو، أم كانوا يقولون بلسان حالهم وقالهم:
دقات قلب المرء قائلة له...إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها...فالذكر للإنسان عمر ثانٍ
إنها قضايا كثيرة أتناولها في هذه المقالات التي سأحرص فيها على المتعة والفائدة، إن شاء الله.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع