لم يعد الرأي العام يعوّل كثيراً على الانشغال الموسمي للنخب السياسية والإعلامية بجدل رحيل الحكومة وتعديلها أو حتى بقائها.
فمن الواضح أنّ الأسس التي تقوم عليها المعادلة السياسية الحالية قد أصابها التكلس والجمود، ولم تعد قادرة على هضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية ومواجهة التحديات الداخلية المُلِحّة.
فقط خلال الأشهر الماضية، يمكن التقاط حجم المتغيرات المجتمعية، كالاحتجاجات العُمّالية التي كسرت حاجز الخوف من الأمن، إلى الاعتصامات الخدماتية، إلى بروز أزمة “الهويات الفرعية”، وظهور حركات مطالبية، كحركة ذبحتونا و”الخبز والديمقراطية”، بالتوازي مع ارتفاع وتيرة العنف الاجتماعي، بصورة جمعية وفردية كذلك.
هذه المؤشرات والظواهر لم تنشأ من فراغ، فقد جاءت في سياق تحول مفهوم الدولة وانحسار دورها وتلاشي “العلاقة الزبونية” بينها وبين المواطن، تلك التي حكمت المعادلة السياسية خلال العقود السابقة، ما أصاب معادلة المصالح السياسية والاقتصادية السابقة في الصميم.
اليوم، المجتمع الأردني بمثابة الطرف الأضعف في المعادلة، في سياق حرص الحكومات المتعاقبة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وبناء منظومة تشريعية لخدمة بيئة الأعمال، والقفز درجات كبيرة في مرتبة تسهيل الأعمال والمسارعة في التخلص من عبء ميزان المدفوعات والنفقات الجارية..الخ.
هذه السياسات خلقت فرص عمل جديدة ومنحت زخماً للقطاع الخاص ومساحة أوسع من النشاط، استقطبت قطاعات حيوية، وساهمت في الحدّ من الاعتماد على الدولة، لكنها في الوقت نفسه أدت إلى تشوهات اقتصادية واجتماعية، دفعت ثمنها ابتداءً الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة والكادحة، فضلاً أنّها فتحت باباً واسعاً للفساد الإداري والمالي، بسبب ضعف الحصانة السياسية والرقابية وجمود الأدوات السياسية وعجزها عن رأب الفجوة مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
المجتمع يدفع ثمناً باهظاً لتسارع التحولات الاقتصادية مقابل تراجع الحياة السياسية، بالتوازي مع غياب الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني، بخاصة الطبقة الوسطى في القطاع العام التي تعرّضت لهزات عنيفة، أضعفت من حضورها السياسي ومن وظيفتها كـ”صمام آمان” يقي المجتمع من الأعراض الجانبية الكبرى المصاحبة للتحولات الاقتصادية.
لعلّ الاستجابة الضعيفة مع “حملة مقاطعة اللحوم الحمراء” بمثابة دليل واضح على عدم وصول المجتمع إلى المرحلة التي يدافع فيها عن مصالحه وحقوقه، وما يزال يفتقر إلى الوعي المطلوب بهذه التحولات البنيوية، ما يحفِّز القوى المجتمعية الجديدة والصاعدة إلى تنظيم نفسها وحمل مهمة الدفاع عن مصالح الشرائح المطلومة والمضطهدة، وتعديل مزاج التشريعات والقوانين والسياسات التي تميل إلى الجانب الآخر.
ذلك، يدفع إلى ضرورة إعادة تعريف العلاقة بين المجتمع والدولة، وفق الصورة الجديدة، التي لم تعد فيها الدولة أباً راعياً، بل طرفاً محايداً في أحيان، وغير نزيه في أخرى في لعبة تحديد وتعريف المصالح الاقتصادية.
فثمة ضرورة اليوم لأن يتحرّك العمال للدفاع عن مصالحهم من خلال إعادة تشكيل نقابتهم أو البحث عن أشكال جديدة، تحديداً عمال المياومة في الحكومة والقطاع الخاص، وفي قطاع النقل العام، وعلى المعلمين تكثيف الجهود لإنشاء نقابة، والطلاب من أجل اتحادات منتخبة، بالإضافة إلى الحركات المدنية المطالبية، وفي صلب ذلك تقوية جمعية حماية المستهلك وتوسيع نطاق إمكانياتها وأدواتها.
في الأثناء، على الدولة أن تساعد على نمو مجتمع مدني حقيقي يملأ مساحات واسعة في المجال العام، لم تعد الدولة تقوم بها اليوم. قدرة المجتمع على تنظيم نفسه والدفاع عن مصالحه تقع في صميم الأمن الوطني، والمصلحة العليا من الدولة، لأنّ ذلك وحده كفيل بإعادة التوازن للمعادلة الداخلية، ما يحول دون وجود ثغرات كبيرة ترفع وتيرة التحديات والتهديدات الداخلية وتهدد السلامة الوطنية العامة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد