يبدو ان الانظمة التي اعتاد عليها العرب ان تعمل كضابط ايقاع للواقع الاجتماعي الذي يمثل الاطار المشترك لهم قد نفذت صلاحيتها، وتعطلت، وافاقت المنطقة على واقع جديد تواجه فيه حالة من الفوضى، والبحث مجددا عن ضوابط تعيد ربط الانسان العربي بحالة من النظام يمكن لها ان تنشأ القيم الاجتماعية والوطنية مجددا في خضم حراك جيل اخذ على عاتقه مهمة التغيير التاريخية.

فالعرب نشؤوا في جو ثقافي وانساني له سمة معينة ، وتبلورت في ظله قيمهم وعاداتهم الاجتماعية، وعناصر التأثير في سلوكهم، والانماط المعيشية التي تأثرت بها الاجيال، وظل هذا الحال يمثل ضابطا لهم، وبذلك حكمتهم انظمة نمطية متعددة الاوجه لعل من اسوئها الجانب السياسي حتى افاقوا على وقع نفاد صلاحية الانظمة التي عاشوا في ظلها، وقد توقفت عن العمل، فخرج الجيل الراهن من قيوده وراح يبحث عن شكل اخر ينضوي تحته، وهو يقرر ان من حقه اعادة صياغة الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية في النظام الذي سيشرع ببنائه، بعد ان يجهز على ما هو قائم، وقد يكون الفعل السياسي الذي تبدى بخروج الناس للشوارع والساحات العامة مطالبين بسقوط بعض الانظمة السياسية هو مقدمة لتغير قد يشمل كافة انواع السلطة ومنها المعنوية ، والتي تشكل في نظر الجيل الذي احدث التغيير قيودا يلزم الخلاص منها، وقد تصبح كافة المؤسسات التي كانت تتفرع عنها سلطة من أي نوع مهددة بالزوال، ومنها على سبيل المثال السلطة الاجتماعية، والمتبلورة في اطار العائلة ، او العشيرة او المؤسسة التعليمية. وقد رأينا كيف اخذت الاجيال تتفلت من الخضوع لهذه السلطات تباعا، وكأن مفعولها كان ينفد، وافاقت على فراغ في السلطة الاجتماعية.

ومن مظاهر انهيار السلطة التقليدية تفلت الاجيال من الخضوع للقيمة المعنوية التي كانت تمثلها النخبة الثقافية إذْ فقدت بريقها نوعا ما، وقدرتها على تشكيل الوعي، وتماهت الرموز الثقافية مع العامة في مكانتها، ولم تعد تلقى حضورا في المشهد العام كتلك القيمة التي شكلتها على مدى الاطار الزمني الذي بتنا في حالة مغادرة له، وربما ان تغير مصادر المعرفة، وظهور وسائل اكثر قدرة على التأثير وصياغة مساحة الوعي، وهي الاجهزة الالكترونية، ووسائل الاعلام والتقنية الحديثة فرضت نفسها على العقل العربي، وازاحت بدورها ادوات التأثير التقليدية، وهو ما سيظهر اثره في المستقبل القريب.

واما الشكل الاوضح لانهيار منظومة السلطة القديمة فهو الدمار الذي حل بالانظمة السياسية، وما يلحق بها من سلطات، ومحاكم، وسجون واجهزة امنية، وحزمة القوانين والانظمة التي كانت تضبط سلوك الافراد والجماعات، إذْ تفجرت العلاقة التي كانت تجعل الامة في حالة خضوع، واستكانة للسلطة السياسية التقليدية في المنطقة العربية، والتي تقوم بمعزل عن الارادة الشعبية، وهكذا خرجت بعض الرموز السياسية من اطار الخدمة، وتلاشت القيمة العالية التي كانت تمثلها السلطة في عيون الشعوب، واصبح رجالاتها في حالة مطاردة فعلية او تلحق بهم لعنات الشعوب وسخطها، وتهاوت في ايام الشرعية، والاساطير التي قامت عليها السلطة التقليدية. ووجدت الاجيال العربية الشابة نفسها في حالة تحرر من الخضوع للسلطة التي حكمت حياة الاباء والاجداد السياسية والاجتماعية والثقافية والى زمن قريب، وهي اليوم باحثة عن فرض انظمة بديلة قد لا تقوى على العمل سريعا، وربما تسبقها حالة فوضى، او يحاول الجيل السابق استعادة الانظمة المنهارة، وطوي الصفحة العربية الراهنة، وربما ان صراع القديم والحديث في المنطقة العربية ليس محكوما بهزيمة حالة وعي مضى زمنها على يد حالة وعي اقبل زمنها، وانما هي محض صراع يحكم حالة ما قبل المنطق على صعيد المنطقة العربية.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   رشاد أبو داوود   جريدة الدستور