تحتاج الأمة إلى إبرام عقد اجتماعي جديد، يصار فيه إلى تحرير إرادة الأفراد والجماعات من جمود التقليد، وبما يفضي إلى إعادة صياغة وتوضيح حدود العلاقات، والعادات، والتقاليد في سياق مراجعة علمية تراعي تطور الأوضاع الاجتماعية الراهنة، وتشابكها، وذلك بما يتناسب مع إمكانيات، وقدرات الفرد في حياة اليوم، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خلاص اجتماعي من وطأة بعض العادات التي باتت تشكل عبئا ثقيلا على المجتمع، وتمنع تطوره، وتحصره في إطار نظرة ضيقة من التقليد، وعدم مراعاة حاجة التجديد الملحة التي تطل برأسها في حياة الأمم، والشعوب كلما تطورت وسائل الحياة، واقتضت الظروف والحاجة.
والثورات السياسية تسبقها الثورات الاجتماعية، ويبدأ التغيير اجتماعيا ثم ينتقل إلى طوره السياسي، إذْ لا يمكن إقامة مجتمع مدني في ظل عدم الاتفاق على مفهوم المواطنة، والمجتمع الحديث الذي تقام عليه الدولة الحديثة يتناقض بدوره مع عادات وتقاليد وتوازنات اجتماعية معيقة، ولا يتحرر الصوت السياسي ما لم يتحرر الفرد من الضغوط التي تحيط بحياته الاجتماعية، ومن ذلك تتبدى الحاجة إلى مشروع فكري في التغيير المجتمعي يقوم على أساس استعادة الدور الإنساني للوحدات الاجتماعية التي تحولت في ثنايا دورها السياسي إلى ما يشبه المكاسرة الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، وينسحب ذلك على مواسم الانتخابات التي صارت أشبه ما تكون بالتدافع الاجتماعي، وكأنها تطاحن قبلي، أو غزوات عشائرية، وليست وسيلة في فرز الأكفأ لموقع الرقابة والتشريع.
ولعل من مؤشرات النظرة الاجتماعية القاصرة إسقاط الرابط بين زيادة حجم المسؤولية كلما توسعت الأسرة إذْ إن ازدياد عدد أفراد الأسرة في المجتمع العربي لم يلفت النظر إلى ما يترتب على ذلك من معاناة لرب الأسرة ولأفرادها فيما يتعلق بتوفير متطلبات العيش الكريم والتعليم والصحة، وهو ما يمنع التركيز على تأهيل الفرد بما يتناسب مع دوره في حياة اليوم. وهذه الاشكالية أكثر ما تتجلى في المجتمعات الفقيرة حيث الأسر الكبيرة مرتبطة بالبعد الاجتماعي، وبذلك تفقد الأسر القدرة على الحياة الكريمة، وتصبح رهينة الظروف الصعبة، وتواصل حياتها في معاناة ليس لها نظير، وهذا ينعكس بدوره على قدرة الأفراد على التأهيل، واخذ دور أكثر جدوى في الحياة، ولعل مجتمعات كثيرة ربطت بين العبء الاجتماعي، وإعاقة أحلام التغيير، ووازنت بين دخل الفرد، وعدد أفراد أسرته فوصلت إلى إنتاج المجتمع الحر، الذي تقل فيه المسؤوليات إلى حدودها العادلة، وبالتالي أصبح الإنسان يتفيأ ظلال مجتمعات تتوفر فيها شروط ممارسة الحريات الحديثة.
والعادات المكلفة اقتصاديا والتي تفوق قدرة الفرد في حياة اليوم تمثل أيضا قيدا اجتماعيا إذْ تنتظمها جميعا نظرة اجتماعية مدفوعة بالتفاخر، ومنها ارتفاع تكاليف الزواج، وما يلحقه من مصروفات يمكن تجاوزها فيما لو جرى توافق مجتمعي على ذلك، وهي تشكل عقبة أمام الفرد المحكوم بدخله المحدود، وكذلك التكاليف التي تترتب على حالات الوفاة لأنّ العادات الاجتماعية القاصرة تفرض على أصحاب العزاء إقامة الولائم، وهو هدر يمارسه المجتمع من جيوب أفراده التي يعاني غالبيتهم من قسوة الظروف.
وهنالك عادات منبثقة عن مجتمع القبيلة، وما تزال ممارسة في إطار مجتمع اليوم الذي يفترض انه يقوم على المواطنة، وحكم القانون، ومنها العطوة، والجلوة، وهي عادات تستنزف المجتمع، وتشد أعصابه.
حراك اجتماعي يفترض أنه يسبق أو يترافق مع الحراك السياسي؛ كي نهيئ أجواء الحريات اللازمة لتحرر المجتمع أولا من معيقاته، ومن ثم يبنى عليه قيام الدولة الحديثة المنشودة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة رشاد أبو داوود جريدة الدستور