*في الصمتِ مَسَرَّةٌ, والقليلُ من الكلمات يَفِي بحاجتك. ولولا الاضطرار, لاطَّرَحت الكلام مكتفياً بالايماءات عندما تستدعي الضرورة.
فحينما لا تجد الا القليل ــ والقليل جدا- مما يجمعك بالآخرين ويدفعك للتواصل معهم, لا تعود ثمة حاجة بك للكلام.
بل تشعر على نحو متزايد, وكأن الكلام فائض عن حاجتك في غالبية الاحيان. ليس عن نقص في الجرأة في الافصاح عن الذات امام الغير, ولا في المقدرة على التعبير, ولا عن ضيق في المساحة اللغوية او المعرفية, بل عن عزوفٍ جارفٍ مستبدٍ ينأى بك عن تقاليد وبروتوكولات الثرثرة الدارجة في المجتمعات.
*               *                 *
قد تكون قسَوتَ على نفسك فيما مضى, حينما كنت منشغلاً في الحياة العامة الى درجة الذوبان وانعدام المسافة بين ما هو شخصي وما هو عام, وكان الكلام هودج احلامك, وراية ندائك, ووشيجَتك مع الآخرين للوَعْدِ الذي تُلَوِّحون له.
وقد يكون لشبكة الروابط الاجتماعية والمهنية بممارساتها الضاغطة, التي تستهلك الوقت وتصادر الخصوصية باسم التقاليد المَرْعِية, دورها المهم في ابتعادك عن هذا الجو الخانق الذي لا يترك لك مجالاً للاشتغال على مشاريعك الخاصة.
وربما تكون غادرت ذاتك ثم عدت اليها باحثاً عما لم تجده في ترحالك الطويل, فاستعضت عن تفاعلك المباشر وحوارك مع الآخرين, بالتفاعل المعرفي وبتصَفُّح نفسك ومناجاتها.
لست واثقاً.. قد يكون هذا السبب او ذاك او كلها, لكن ما انت واثق منه هو انك استعدت في السنوات الماضية واسطتك القديمة التي اهملتها كثيرا: "الكتابة", التي رَدَّت  اليك روحك, ووجدت فيها اداتك ـ بل رئتك ـ في التعبير وفي التواصل.
ربما تكون هذه الاستعادة للكتابة هي ما ابعدك شيئا فشيئاً عن التفاعل الاجتماعي وحفز رغبتك في الاعتزال.
لكن هذا هو فقط المستوى الظاهر من الموضوع, اما المستوى العميق فيعود الى شعورك المتنامي بمحدودية وضآلة ما يدعو للتفاعل مع الآخرين, عدا قلة قليلة جدا تجد ما يمكن ان تتحدث عنه معها بين حين وآخر.
*                *                   *
ربما يجب عليك ان تشكر مخترعي "اللاب توب" الذين قدموا لك خدمة عظمى جاءت في وقتها, اذ قدموا لك الوسيلة والذريعة المناسبتين لتوفير الكلام واستخدام اقل قدر منه. والاهم انهم ــ مع مخترعي الهواتف الجوالة والقنوات الفضائيةــ منحوك ما يغنيك في العزلة, ويغريك بها.
وللعزلة مكانة  قديمة, ورصيد محفوظ  لديك راكمته منذ ايام شغفك المبكر بقراءة الكتب, وتطور مع نزوعك الى  التفكر والتأمل فيما حولك من وجود واحداث وافكار, ثم في اعتيادك على مراجعة نفسك بين وقت وآخر. وتدينُ للعزلة بالقدر نفسه من التأثير ــ في بناء شخصيتك واختياراتهاــ الذي تدين به لمشاركتك في الحياة العامة. وربما كانت العزلة بالنسبة لك, هي الطاقة الخلاقة الدافعة, فيما كانت المشاركة الترجمة العملية لها.
*                   *                  *
تعرف بالطبع, ان المجتمعات تتعامل مع العزلة كحالةٍ مَرَضِيَّة تشِي بِخَللٍ في التكيّف والتأهيل الاجتماعي, لكنك لا تلقي بالاً لهذا اللغو الشائع الذي هو تعبير عن اتقان البلاهة وصيانتها بحرص. فالاساس فيما تتواضع عليه المجتمعات وتنطلق منه, هو ادامة النظام السائد والحياة المعتادة, اما التساؤل عن مبرر ومعنى ووجهة هذا النظام السائد وهذه الحياة المعتادة, وطرح بديهياتهما للنقاش, فهو لا يشغلها بل يقلقها, وقد يسبب لها النفور او الفزع. لذلك, يكون الحوار معها تبديداً للجهد والوقت وتعكيراً للمزاج. ويكون الاعتزال طريقةــ لا للخلاص الفردي او الجماعي ــ وانما للتفَكُر فيما هو, وفيما يَدلُ عليه.
*               *              *  
ليذهب "الاجتماعيون" لشأنهم, فلَكَ شأنك الذي يعنيك.
فما دمت لا تحفل باخبار الطقس والنميمة ودسائس الموظفين والاقاويل الاجتماعية, فلم تُكْرِه نفسك على سماع ما تعافه, فيما ينبغي لك ان تكرِمها عما لا تطيق؟
 وما حاجتك للكلام, بِبُؤسِه وضِيقه, وفي الصمت المُتأمِلِ مَسَـرَّة ومُتَّسَع يغنيك؟
لا داعي للشرح, هَوِّنْ عليـك..
القليل من الكلام يكفيك.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع