قد يتساءل البعض من -منطلقات مادية بحتة- فيقول: ما هو الداعي لإلزام نحو 3 ملايين إنسان بالاجتماع في مدينة واحدة في آنٍ واحد؟ وما هي الفوائد التي يَجْنيها هؤلاء؟ ولماذا يُلْزَم رجال الأعمال والمفكرون والخبراء ومدرِّسو الجامعات والأمهات... بترك مهماتهم الحيوية التي لا تستغني عنها الأمة ليسافر إلى مكة المكرمة القائمة في وادٍ غير ذي زَرْع؟ وأين هي المصلحة الإستراتجية من ذلك؟!
إن الشريعة الربانية تقوم على: تحقيقِ الخير للإنسان المكلَّف العامل بها؛ في 1.دينه 2.ونفسه 3.وعقله 4.وعِرْضه 5.وماله، وعلى إبعاد الشرور والأضرار عنه. وبما أن وجوب الحج على المستطيع هو أحد أهم أحكام الإسلام بل هو أحد أركانه الخمسة فلا بد أن يكون منسجماً مع النَّسق العامّ للشريعة.
وقد يَعْجب أولئك السائلون إذا علموا أن إجابتهم (على السؤال السابق) واردة في نص قرآني (ليَشْهدوا منافع لهم) ضمن سورة الحج، غير أننا سنقدم تأملات في فهم (ليَشْهدوا منافع لهم) التي هي أشمل هدف في ذلك النص ثم نسوق الآيات ذات الصلة:
· كَسْرُ الرتابة "الروتين": فكم من مبدع في العلم أو مُنْجِز في العمل قَتَله التكرارُ وعَطَّل لياقتَه الإنتاجية المََلََل، فيساهم الحج في التجديد والإعداد لانطلاقة مندفعة، وهو "سياحة دينية" ممتازة تخفف من الحقن النفسي وتعرِّف الحاجّ بأرضِ النبوة ومَهْبِط الوحي والساحة التي وقعت فيها أحداث عظيمة ترتبط بعقيدته.
· تفعيل الانتماء للأمة: قد تقطع الحدودُ المصطنعة باتفاق (سايكس - بيكو) أوصالَ الأمة، خاصة عندما يرسِّخ الحكام والإعلاميون و"التربويون"؛ القيمَ القومية أو "الوطنية" الضيقة بقلم ونشيد ومعتقَد "مستقل" يتعصب له رغم أنه قد يكون مأخوذاً من الدولة المحتلة على طريقة copy – paste فيأتي الحج ليحطم هذه الحدود ويقدم الانتماء إلى عقيدة الإسلام على كل انتماء.
· إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم: تذوب أيضاً الفوارق العرقية واللُّغَوية واللونية، ويختلط الناس رغم تفاوت الطبقات الاجتماعية التي ينتمون إليها؛ كما أعلن نبيهم محمد r يوم حجة الوداع: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. كلكم لآدم وآدم من تراب".
· العمل ضمن فريق والخضوعُ لأمير: رحلة الحج فُرصة لِبَث روح الجماعة وتأكيد أهميتها عمليّاً؛ فيختار الحاج الحمْلة التي تناسبه ويطمئن لها ويثق بقائدها، ثم يلتزم ببَرنامَجها وتوجيهات أميرها ما دامت لا تُعارض الشرع، دون أن يكون ذلك التكتل الجزئي متعارضاً مع انتمائه إلى أمته. وكذلك أن يكون المسلم بعد رحلة الحج عاملاً ضمن فريق وخاضعاً لأمير شرعي.
· الصبر على التعاون والنَّفَس الطويل: حيث يتفاوت أفراد المجموعة في طاقاتهم وسرعتهم، ويختلفون في أمزجتهم وعاداتهم واهتماماتهم وآرائهم، وهذا كله أمر معتاد ولكن الصبر عليه بحسنِ خُلُق لا يحسنه كل أحد؛ "مَن حج فلم يرفث ولم يَفسق رجع كيوم ولدته أمه" حديث رواه البخاري.
· المغفرة من الذنوب: كما في الحديث السابق وفي لفظ الترمذي: "غُفر له ما تَقدم من ذنبه". وهذه المغفرة هي أحد أهم تلك المنافع التي يرجع بها الحاجُّ نقيّاً متخففاً من أثقال الذنوب كما كان يومَ ولادته، إلا حقوق الناس فلا بد من إرجاعها أو المسامحة.
· لَمْس الحاجة إلى طلب العلم: قد تمر السنوات على الكثيرين دون أن يَثْنُوا رُكَبَهم في حلقة قرآنية أو درس علم شرعي-اللهم إلا خطبة الجمعة- ولكنه يوم يحج سيعرف كم فاته من التعلم، وأنّ كل الحاجات المادية التي حضرها والاستعدادات التي اتخذها أفادته ولكنها لا تغنيه عن طلب العلم الذي هو "فريضة على كل مسلم" كما في الحديث النبوي.
· إجازة إلزامية: إن غياب مدير المؤسسة أو راعي المنْزل واضطراره إلى إحالة مسؤولياته مدةَ أيام أو أسابيع إلى نائبه أو زوجته أو أحد أولاده... هو فرصة لاختبار طاقاتهم؛ لاكتشاف الإبداع لتطويره، أو الإخفاق لتلافيه بالتأهيل والاستعداد للإجازة المفتوحة المحتومة... وكان من الأمثلة على اكتشاف الطاقات الكامنة المعطَّلة تكليفُ أمير المرابطين ابنَ عمه "يوسف بن تاشُفِين" نائباً عنه ليدير شؤون الدولة مدةَ غيابه لأداء الحج فلما رجع وجد أن ابن تاشفين أقدر منه على سياسة الدولة فتنازل له عن الحكم فكان نسخةً في الغرب عن صلاح الدين الأيوبي في الشرق. وقصته جديرة أن تُدرس.
· الإجازة المفتوحة: يَنْهمك الكثيرون في التفاصيل اليومية أو التخطيط للمستقبل، ولكن يغفل الكثيرون عن تذكر" الإجازة المفتوحة" التي قد يدخلها في أيّ لحظةٍ حين يخطفه مَلَك الموت من بين أشغاله وأهله، ليُلَفّ بثوب أبيض، ثم يُبعث من قبره ويحشر مع كل البشرية في صعيد واحد... والحج قيامة مـصغَّرة تتيح للإنسان التهيؤ للقيامة الكبرى.
· الحج جهاد المرأة: هذا ما يقرره رسول الله في قوله: "جهاد الكبيرِ والضعيف والمرأة: الحجُّ والعمرة" رواه أحمد والنَّسائي. وهذا تخفيف عن المرأة بما ينسجم مع خِلْقتها الجسمية ووظيفتها في المنظور الإسلامي، كما أنه رفع لشأن الحج بإلحاقه بالجهاد.
· التعارف والتواصل والتعاون: فيلقى المسلم إخوانه في الدين يسمع أخبارهم مشافهة غير محرَّفة، فيفرح لإنجازاتهم ويحزن لمصابهم ويفيدهم بما عنده ويستفيد منهم في كل الشؤون التربوية والعلمية والحضارية والعسكرية والسياسية. فَهُم أمة واحدة كالجسد الواحد وإن فرَّق بينهم الأعداء المحتلون والمُوَالُون لهم من أبناء جلدتنا؛ كما كان يلتقي سيدنا عمر رضي الله عنه بكل ولاته في موسم الحج، وكما كان يُعقد فيما بعد "ديوان المظالم" لمقاضاة الرعية للولاة والحكام. وقد كان سبب قيام دولة المرابطين في المغرب زيارةَ رئيس إحدى قبائل المغرب لعالمٍ في رحلة حجه بعث إليهم تلميذ أحد تلاميذه في تونس فأقام لهم مجتمعاً صالحاً ودولةً مسلمة فذة.
· التقشف والتخفف من الكماليات: في رحلة شبيهة بنشاط كشفي بعيد عن الرفاهية، في أجواء صحراوية قاسية، لا عطر ولا زينة ولا حَلْقَ لشعر ولا زواجَ (رفث) ولا صَيدَ... فهو درس جديد لاستكمال تحقيق "الأهداف التربوية" التي أّسَّس لها "درسُ" الصيام والزكاة في "المقرر" الإسلامي.
· الوحدة الشعورية: لمن وفِّق لأداء تلك العبادة في مكة (ولكل الأمة من حولهم وهم يشتغلون بالعبادات في أيام العشر الأوائل من ذي الحجة بالذكر والصيام والصدقة والتكبير...)، ثم الاحتفال يومَ العيد لهم جميعاً بما أتمه الحجاج؛ يُؤْجر الصغار والكبارُ على الفرح تعظيماً لشعائر ولحُرُمات دين الله.
· ضيافة عامة: فغير الحاج يَذبح الأضاحي، والحاجُّ يذبح الهَدْي (استحباباً أو وجوباً) فيأكلون منها ويطعمون الغني والفقير، القانع المتعفف والسائل المُعْتَرّ، وإن كان الهدي مقابل جناية على عبادة الحج يتصدق بالذبيحة كلها للفقراء. وهكذا يتوسّع الجميع بالنِّعَم يوم العيد.
· التبادل الاقتصادي: وهناك -في ذلك الوادي المبارك- تجتمع المنتجات من كل أسواق الدنيا، ويستثمر التجار تلك "البورصة" المالية المفتوحة، حتى أصحاب رأس المال المحدود الذين لن يعجزوا عن شراء بعض التمر الحجازي أو العسل الداغستاني أو الصناعات البدائية الأفريقية.
هذه بعض التأملات لواقع مناسك الحج وللآيات التي نزلت فيه، ولا شك أنها قابلة للإضافة عليها بل للمضاعفة بالتأمل لأنها عامّة مفتوحة في قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم).
[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 27 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ 28 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ 29 ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ30]. ويمكنك أن تلاحظ سياق الآيات التي تلي ما سبق [الحج: 27-41] وكأنها تضع الخطة وترسم الطريق للأمة المسلمة حتى الوصول إلى إقامة شرع الله والتمكين فب الأرض؛ كما قال الله تعالى: [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ41].
المراجع
الموسوعة العربية لتطوير الذات
التصانيف
تصنيف :عقيدة