عام هجري جديد يحمل ذكرى تطوي فيها سيرة الآلاف من أهل الإيمان الذين ساروا على درب الهجرة من يوم أبصر الإسلام طريقه في الأرض، ولكن ارتبطت ذاكرتنا بهجرة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما كان ليخرج عن سنن الأنبياء الذين سبقوه . والحتميةُ التاريخية أثبتت أن الدعوة السلمّية: الضعيفة من حيث الإمكانات والقوة، القوية من حيث الفكرة والطرح لا تُحتمل من قبل المتسلطين، وسوف يَضيقون بها ذرعًا ويحاربونها ويضطهدون أهلها، فلذلك كان أول ما قاله ورقة بن نوفل لما قصَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه ما حصل معه في غار حراء، قال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني فيها جَذَعاً، أكون حيّاً حين يُخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرجي هم؟ فقال ورقة: نعم لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُوْدِي، وإن يدركني يومُك أنصرك نصراً مؤزراً. [البخاري] ولقد أكد ربنا عزّ وجل هذا المعنى بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ }. [إبراهيم13] فالهجرة تمثل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فصلا ًجديداً من فصول الدعوة طويت به صفحة الآلام، ومرحلة الاضطهاد، آلامِ (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). آلامِ (إلا بلال ... فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أَحَدٌ، أَحَد) [ابن ماجه]. آلامِ الاستخفاء بالدين، وعدم الجهر بالشعائر، والاستهزاء بالمؤمنين، والتعذيب لهم جسدياً ومعنوياً. وفتحت صفحة الآمال بغدٍ واعدٍ يأمن الناس فيها على: أنفسهم، ودينهم، وأهلهم، وأموالهم، وحريتهم، بغدٍ يطرق فيه الإسلام أبواب العالم مستأذناً على القلوب التي تريد الحقيقة والسعادة الأبدية. فكانت طريق الهجرة التي مثّلت آخر مخاض الآلام القهارة تُنْزَع منه الآمال المشرقة بدين سيبلغ ما بلغ الليلُ والنهارُ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيزٍ أو بذل ذليلٍ، عزاً يُعِزُّ الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر". [مسند أحمد: صحيح] وفي المدينة ولدت الآمال التي كانت يحملها المسلمون، في دولة تجمع شتاتهم من مكة، والمهاجرين إلى الحبشة، واليمن، والجزيرة العربية... وغيرها، وتنظِّم قواهم وطاقاتهم لتحقيق السعادة للبشرية بنشر الإسلام الذي يحرر إرادة الإنسان وفكره ونفسه وروحه من قيود العبودية لغير الله عزّ وجل. وتأتي ذكرى الهجرة اليوم والعالم الإسلامي بأسره يعيش رحلة قد طالت على طريق الهجرة من الآلام: آلام الاضطهاد الأحمر والأسود في شرق البلاد وغربها على يدي جلادين لم تعرف الرحمة قلوبهم في صور من الإرهاب فاقت أفعال الجاهلية، ولكن الأمة ما زالت تسير في طريق الهجرة لتنزع بقوة الإرادة الإيمانية من الآلام الآمال بتحرير بلادها من رجس المحتلين والمتسلطين، ويتراءى أمامها الفجر الصادق إيذاناً بالصبح القريب الذي نسأل الله عزّ وجل ألا يُميتنا حتى يُرينا ما يقرُّ أعيننا بالإسلام والمسلمين. وقبل مغادرة طريق الهجرة التفاتة إلى الوراء حيث الأرواح الطاهرة التي ملأت مسيرة الدعوة بأريج الشهادة وعبق الدم الذكي الفوّاح، إلى تلك الأجساد التي عبّدت طريق الأمة فامتدت كالجسر تعبر عليه الدعوة والإيمان والإسلام. إلى آلاف الشهداء من لدن فجر الإسلام إلى يومنا هذا ألفُ ألفِ تحيةٍ أيها الأحياءُ؛ بدمكم، وجهدكم، وجهادكم، وصدقكم، وإخلاصكم، كانت الآمالُ حقيقة منتزعة من رحمِ الآلامِ. المصدر: جمعية الاتحاد الإسلامي

المراجع

annajah.net

التصانيف

تصنيف :فنون   أدب  مجتمع