ثمة عزوف ملحوظ لدى الشرائح الاجتماعية العربية المختلفة عن القراءة، وهي ظاهرة يعاينها من يتواصل مع دور النشر ومراكز بيع الكتب، بالإضافة إلى المكتبات العامة التي تكاد تقتصر على الطلاب "المجبرين"، غالباً، على كتابة الأبحاث والعودة إلى المراجع.
في العادات اليومية العربية، تختفي قيمة القراءة، مقابل انتشار العادات الاستهلاكية الترفيهية الأخرى، ولا تكاد تقارن بأيِّ حال من الأحوال رواد المقاهي والمطاعم والمولات التجارية الكبيرة برواد المكتبات، ولا تكاد تجد في تلك الأماكن الترفيهية أي حضور للقراءة، كما هي الحال مثلاً في المقاهي الغربية.
الأرقام التي تقدّمها التقارير الدولية والعربية المعنية عن انتشار الكتب ومعدّلات القراءة والترجمة هي أرقام مخزية ومخجلة، على المستوى العالمي، بل حتى في المقارنة مع العدو التاريخي للعرب، إسرائيل.
علاقة أغلب الأجيال العربية الجديدة مع الكتاب هي علاقة خجولة أو عدائية أو حتى إجبارية مرتبطة بالتخصص والدراسة، فنحن لدينا أجيال من المتعلمين، لا المثقفين، أو لدينا ثقافة بلا مثقفين، على حد تعبير الطاهر لبيب، تعتمد لدى أغلب الناس على الثقافة البصرية والسمعية، نتيجة لانتشار وسائل الإعلام الحديثة (التلفزيون، الإذاعات، الانترنت..).
ذلك ينعكس بصورة مباشرة وكاملة على مكانة المثقف العربي ودوره ومدى مساهمته في بناء تيار الإصلاح العام داخل المجتمعات والشعوب العربية.
المفارقة أنّ درجة الاهتمام بالقراءة والكتاب بالتوازي مع أهمية المثقفين ودورهم في الحياة العربية العامة تشهد تراجعاً هائلاً وكبيراً لدينا، مقارنة بما كانت عليه الحال في العقود السابقة، على الرغم من ثورة المعلومات والاتصال، وانتشار الجامعات والكليات واتساع رقعة المتعلّمين والحاصلين على الشهادات الجامعية العليا.
لا يمكن، على سبيل المثال، مقارنة وزن مفكر عربي سابقاً وحضوره، مثل محمد عبده أو أنطون سعادة أو سلامة موسى، ولاحقاً عباس محمود العقّاد ومصطفى الرافعي، وخالد محمد خالد، بحالة المثقفين العرب اليوم، ومدى تأثيرهم وحضورهم في المشهد العام!
ومع أنّ بقية المثقفين العربي تقاوم شبح الانقراض إلاّ أنّ مدى تأثيرها في حركة الشارع والمجتمعات العربية يبقى محدوداً جدّاً، لا يتجاوز فئات قليلة من المهتمين والمتخصصين، مما يجعل من وجودها أمراً ثانوياً أو تكميلياً، وليس أساسياً!
بنظرة بسيطة، كما يشير خبراء لهم علاقة بسوق النشر والكتاب في العالم العربي، إلى كتب نخبة من المفكرين والمثقفين العرب اليوم، كمحمد عابد الجابري مثلاً أو فهمي جدعان أو برهان غليون..، فإنّ عدد النسخ المطبوعة لا يتجاوز في أحسن الحالات خمسة آلاف أو ستة آلاف، توزّع على المكتبات ودور النشر، وليست بالضرورة تباع، بينما في الغرب يجري الحديث عن ملايين النسخ، والكتب "الأكثر مبيعاً"، في مختلف حقول المعرفة والثقافة والأدب.
ظاهرة العزوف عن القراءة (في العالم العربي) ضربت، في الصميم، البنية الثقافية العربية، فالجانب المتغوّل عليها هو الفني أو العابر، الذي يحاكي في كثير منه الجانب الغرائزي أو العاطفي لدى الإنسان، ولا يعكس نهماً حقيقياً بالمعرفة والأداب والعلوم والفلسفة.
الثقافة العربية الحالية هي، على الأغلب، ثقافة هشّة سطحية عابرة، لا تبني فكراً إنسانياً راسخاً، ولا عقولاً مجبولة بالمعرفة، ولا إنساناً مسكوناً بهاجس المعرفة والدراسة والتطوّر الروحي.
بالعودة، مرّة أخرى، إلى مقال الأديبة الجزائرية أحلام المستغانمي "بلاد المطربين أوطاني"، فإنّه بمثابة "إعلان رمزي" حقيقي لموت المثقف العربي، الذي أصبح عالةً على المجتمع، هامشيا في حركته، لا حضور له في السياسية والمجتمع، بالمقارنة مع مطربة سخيفة قادرة على تحريك الغرائز أو حتى داعية - نجم تلفزيوني يخاطب العواطف، ويتلاعب بعقول شباب متلقيّة، لا تعرف القراءة، أدمنت على الاستماع والمشاهدة!
m.aburumman@alghad.jo
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد