صدق من قال: ما جادلت عالما الا غلبته وما جادلت جاهلا الا وغلبني ، بعده بقرون كان الفيلسوف برتراند رسل يتحدث عن موضوع معرفي ، عندما تصدى له شخص لا صلة له بالامر ، واستغرب رسل جرأة هذا الانسان وتدفقه في الكلام ، فاكتشف بان اهم مصدر بل ينبوع للحرية هو الجهل ، على الاقل فيما يتعلق بهذه المسألة ، فمن يعرف يتردد ويضطر الى الصمت احيانا كي يقارن ويختار اما من لا يعرف فلا يحد من حريته شيء حتى لو طلب منه ان يتحدث عن الحجم الحرج في الفيزياء.

لهذا فالعلم قيد ، ولانه كذلك فان العارفين هم الاكثر تواضعا ، لادراكهم ان ما يعرفون ليس اكثر من قطرة في محيط ، واذكر ان واحدا من اهم المؤرخين هو ويل ديورانت الذي كتب اسفارا عن الحضارات والفلسفة قال قبيل رحيله ان ما رآه لم يكن اكثر من برق لاح واختفى ، ثم اضاف ان هذه الدنيا اشبه بامرأة تمر امامنا مسرعة ، ولا نكاد نلمح وجهها حتى تختفي ، وهناك وقائع في حياتنا لا بد ان تروى في هذا السياق ، منها مثلا انني فوجئت اثناء حوار ودي مع واحد من اشهر الكتاب العرب وربما كان اشهرهم على الاطلاق ، يمد يده الى الطاولة ويتلقط دفترا صغيرا وقلما يسجل بعض ما يسمع ، فالذاكرة كما قال خؤون ، وهذا التواضع يندر ان يصدر عن اناس امتلأوا بانفسهم كالبيضة المسلوقة على حد تعبير جان بول سارتر ، بحيث يتصورون انهم محور الكون ، وان الشمس لا تشرق الا من اجلهم رغم انهم في الحقيقة مجرد كتابة عابرة على الرمل.

لا اظن ان هناك معاهد او اكاديميات متخصصة في تعليم التواضع ، بحيث يظفر بالرحمة من عرف قدر ذاته ، لكن الوعي حين يكون مفارقا لهذا الواقع الغاشم والمعرفة الحقة ، كفيلان بان يذكرا الانسان بانه كائن فانْ وان ما يتوهمه من الخلود ليس من نصيبه على الاطلاق ، وحسب ما يرى علماء النفس فان اكثر الناس انكفاء وتشرنقا يتصورون بان الموت هو موت الاخرين وان الفقر والمرض وسائر الكوارث هي للاخرين ايضا ، ذلك لانهم بلا خيال ، فلا يموتون الا عندما يموتون ، ولا يفقرون الا عندما يفلسون ، بينما يقدم لنا الخيال وهو امتياز بشري فرصة وضع انفسنا مكان الاخرين ، او في احذيتهم كما يقول مثل انجليزي يساء فهم ترجمته..ان سوء التفاهم العميق والمتفاقم الان هو بين اناس يعينهم العلم والوعي على ادراك مساحات ما يجهلون ، وبين اناس مصابين بعمى البصيرة حتى لو كانت لهم عيون بومة او صقر.

ويبدو ان هناك نوعين من الجهل ، احدهما بريء وقابل للعلاج والاستدراك ، والاخر مدجج بالزهو ، يتعذر علاجه ، لان المبتلى به اشبه بشخص هزيل مصاب بالانيميا الحادة لكنه لا يتردد في ترشيح نفسه لمصارعة حرة.

ما من مناسبة محددة لهذه التداعيات ، غير ان ما نسمعه ونقرأه احيانا يؤكد لدينا الاعتقاد بان آفة الجهل ليست خسران المعرفة فقط ، انها في كون ضحيته لا يعي وضعه ، ولا يدرك المساحات الهائلة لما يجهل ، لهذا فهو حر لا يلجم لسانه شيء كما قال برتراند رسل.. وغالب في كل مجادلة،،.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور