اتفقت البشرية على قياس عنصر الزمان من خلال حركة الشروق والغروب بالنسبة للشمس، أو حركة القمر وأطواره بالنسبة للقمر (التقويم الشمسي، والتقويم القمري) ثم تعارفت على تقسيم اليوم إلى ساعات، والساعات إلى دقائق، والدقائق إلى ثوان، وجمعت الأيام ثلاثين يوماً لتصبح شهراً، وجمعت الاثني عشر شهراً لتصبح سنة، قال تعالى:
(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض) (التوبة 36).
فلو أنك طلبت من صديق لك أن يقابلك في الساعة كذا، لما وجد أي مشقة في فهم عنصر الزمان الذي تريد، لأن عنصر الزمان الخارجي متعارف عليه بين البشر بكل وضوح ودقة، ولكن الشيء الذي يثير الارتباك ويربك الأفهام، هو قيمة الزمن عند النفس البشرية في الأفراد والجماعات، إذ لا يكاد يتفق الكثير من الناس على قيمة الزمن ليس من ناحية الأهمية في استغلاله، ولكن من ناحية إدراكه ومروره وشعورهم به واستقبالهم له وتفاعلهم معه.
فقد تمر الدقائق التي تراها كأنها دهور طويلة عند نفس خائفة مرتبكة، وقد تمر الليالي كأنها دقائق أو لحظات عند نفس سعيدة مسرورة.
وإذا حاولنا أن نتتبع مرور الزمان على النفس البشرية وكيفية استقبالها له، وإدراكها لقيمته، وجدنا العجب العجاب في هذا الجانب من كثرة المواقف وتعددها وتباينها.
هذا شاعر العرب في الجاهلية (امرؤ القيس) يرى الليل ثابت النجوم ثقيل الظل، لأن حالته النفسية رسمت له الليل بهذه الصورة القاتمة عند إنسان قلق تأكله الهموم:
وليل كموج البحر أرخى سدوله      علي بأنـواع الهموم ليبتلي
فيالك مـن ليـل كـأن نجومه      بكل مغار الفتل شُدَّتْ بيذبل
بينما نرى شاعراً يصور الزمان الطويل ليلة دخوله على عروسه، كأنه لحظات ضئيلة لم يصح منها إلا بهجوم كهجوم الحرس:
حين تم النوم مع حلو اللمى     هجم الصبح هجوم الحرس
ويطالعنا أبو العلاء المعري بصورة أخرى لمرور الزمن مريرة كسواد الليل:
(ليلتي هذه عروس من الزنج     عليـها قـلائـد مـن جمان
هرب النوم عـن فؤادي فيها     هرب الأمن عن فؤاد الجبان
ويجمع ابن زيدون الصورتين معاً، فيساعدنا على إدراك الحقيقة الكاملة، وهي أن الإنسان يرى الزمان من خلال حالته النفسية، فعلى قدر سعادته وسروره يرى السنوات الطويلة تمر خفيفة كلمح البصر، أما إذا ضاقت نفسه بالحياة ذرعاً، فإنه يراها بمنظار آخر ثقيلة الظل بطيئة المرور:
إن يطل ليلي بعدك فلكم    بت أشكو قصر الليل معك
ويورد القرآن الكريم لنا رؤية النفس البشرية للدنيا في قوله تعالى:
(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) (التوبة 118).
والسبب في ذلك أن النفس البشرية تدرك الدنيا من حولها إدراكاً "مصلحياً" مرتبطاً بهواها ورغبتها في الإشباع، فإن شبعت هدأت، وإن حرمت سخطت، وضاقت بالزمان والمكان.
فالأرض الواسعة رغم سعتها ورحابتها، تراها النفس ضيقة خانقة الضيق، في حال الأزمات وأوقات الشدائد والخوف، ولعل السبب في ذلك يعود إلى ابتعاد النفس عن إدراك حقائق الحياة الموضوعية بحياد منقطع عن الإشباع وتحقيق الأطماع، فالحياة من حولنا لا هي ضيقة ولا هي واسعة، ولكن يلزمها أن ندرك حقائقها كما هي، وليس كما ترى وترغب الأنفس، ولو تابعنا هذه النفس بشيء من التربية لتغيرت نظرتها للحياة، وأدركتها بحكمة واسعة كما يدركها العاقلون. قال الشاعر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها   ولكن أخلاق الرجال تضيق
ويقول آخر:
والذي نفسه بغير جمال    لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
أما آن للنفس البشرية أن تدرك قول الله تعالى:
(ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الرعد 68).
لأن الإيمان هو المخلص الوحيد لها من عذابها وهلعها، وهو الدافع لها نحو الأمن والطمأنينة، بعد أن تدرك أنه لابد من التسليم لخالق هذا الكون، كما سلمت بقية الكائنات، وأنها مهما خدعت ذاتها بالهموم والمطامع والبحث عن السعادة الكاذبة في غير منهج الله، فلن تصل للسعادة إلا بأن تسلم، بأنه لا ضرر ولا نفع إلا بإذن الله سبحانه، وإذا عرفت أن الكون هو ملك الله، وأن جميع المخلوقات عباد الله، وبأنه لا يجري شيء في هذا الكون إلا بعلمه، عندها يطمئن الإنسان، ويأنس بهذا الكون ويذهب عنه الخوف والهلع، وما علينا إلا أن نتذكر قول القاضي عياض:
(عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين
وإياك وطريق الباطل ولا تعجب لكثرة الهالكين).
هذه الطريق هي الوحيدة القادرة على رفع اليأس والشكوى من الزمان والخوف والقلق من نفس الإنسان، ليحمل المشاعر الإيجابية الصحيحة تجاه الحياة والأحداث.
صحيح أن الشاعر يرى الحياة من خلال الذات والنسبية بشكل عام، ولكن الشاعر المسلم تتهذب ذاته ونسبيته، من خلال الخضوع لمنهج الحق، فيرى الحياة بفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله. جعلنا الله من أصحاب النفوس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية.

المراجع

alukah.net

التصانيف

أدب  مجتمع