تعود المحاولة الاولى في شعر الاطفال عندنا الى عام 1867 عندما اصدر رزق الله حسون الشاعر الحلبي كتاب ( النفثات)وهو ترجمة شعرية لحكايات كيد لوف رائد ادب الاطفال في روسيا وقد نقل حسون الحكايات من الروسية التي اتقنها ولكنه صاغها شعرا ولم تكن ترجمة حرفية بالطبع وان ترجم بعض الحكايات نثرا ايضا .
وهذه المحاولة تشبه محاولة الرائد المصري محمد عثمان جلال الذي ترجم اكثر حكايات لافونتين عن الفرنسية شعرا وضمها في كتابه ( العيون اليواقظ في الامثال والمواعظ ) الذي صدر في القاهرة في حدود عام .1850 لكن محاولة جلال كانت اكثر تميزا بسبب سلاسة صياغتها وطرافتها وشاعرية صاحبها بينما عانت ترجمة حسون الشعرية من الصياغة الثقيلة والمرتبكة معا لعل من افضلها )صيد الاسد) :
لـيـث وذئب وثعلب
تـشـاركـوا با تفاق
وان يـكـونـوا جميعا
تـشـارك , بالتساوي
وكـلـب صيد مجرب
في الصيد من كل مادب
والـكل يسعى ويتعب
قـسـمـا بعقد مرتب
بعد ذلك ظهر كتاب ( النخبة) لجرجس شلحت عام 1910 وهو ترجمة شعرية لحكايات الاسقف فنلون في الغالب مع بعض الحكايات التي نقلت نثرا وكانت تجربته خطوة الى الامام وفيها سلاسة متقدمة على تجربة رزق الله حسون ومن اجواء ذلك الكتاب هذه الابيات من حكاية ( ثعلبان ):
اثنان من ثعالب البيداء .. تصاحبا للصيد في الصحراء
فواحد كان كبير السن .. وقد غدا اديمه كالشن
وهو شديد البخل لكن يدعي .. مع ذاك حكمة الحريص الالمعي
تسللا الى بيوت القرية .. فخنقا بعض الدجاج خفيه
وبعد ذاك انتشب اللجاج .. بينهما واحتدم الحجاج
مع مطلع القرن العشرين واهتمام المدارس الخاصة والاميرية بكتب القراءة وما تحتاج اليه من قصائد واناشيد فقد ظهر عدد من الشعراء الذين عملوا مربين في الاساس واهم هؤلاء : سليم الحنفي واديب التقي وحسني كنعان وجر جس عبد الملك وعز الدين التنوخي ومصطفى الصواف وفخري البارودي وميخائيل الله ويردي وبدر الدين الحامد وخير الدين الزركلي وعبد الرحمن قات ومحمد تيسير ظبيان وادوار مرقص وجميل سلطان وعبد الكريم الحيدري وامجد الطرابلسي ونصرة سعيد وانور العطار وسليم الزركلي .
من اهم هذه التجارب التي عرفها شعر الاطفال في سورية قبل الخمسينات ما قدمه لنا بداية جميل سلطان :
اول نص استطعت العودة اليه لجميل سلطان كان بعنوان ( الولد والعصفور) في كتاب (علم الموسيقى) لمصطفى الصواف والمنشور عام 1927 وكان يدرس في المرحلة الابتدائية ومنها :
غن يا عصفوري
وازر بالطيور
واعد سروري
لي بالانشاد
فيقول العصفور :
خل عنك الوهما
وتلق العلما
يا فتى كن شهما
وامض للمدرسة
وفي الكتاب نص آخر للسلطان بعنوان ( يا مربض الشمس الاسود ) .
تطورت تجربة الشاعر خاصة انه عمل لمدة طويلة في التعليم وكان مديرا للتعليم الابتدائي في وزارة المعارف وقدم نصوصا ذات اثر خاص في نفس كل من قرأها كما في ) رقص الثلج)
رقصا رقصا .. قطع الثلج
هيا غطي .. وجه المرج
...
دوري دوري .. كالعصفور
هيا ارتاحي.. فوق الدور
...
غطي .. غطي .. وجه الارض
كوني فيها الثوب الفضي
ومما يحسب له ايضا كتابته نصوصا متميزة بطرافتها وبنائها الفريد المناسب للطفل تحديدا كما في القصيدة الاحجية وهي بعنوان ( احزر) :
ما قشرة رقيقة كأنها فنجان
مغلقو داخلها اللؤلؤ والمرجان
من مونو البيت ومما يثمر البستان
ينالها المجد والاديب والكسلان
وانت تهوى اكلها فاحزر هي ..
فترك فراغا ليملأه الطفل بالجواب وهو كلمة : الرمان .
اما الاسم الآخر فاتشرف بتقديمه اليكم اول مرة , حيث لم يسبق ان كتب عنه وعن عمله احد , اعني الشاعرة جسماني شقرا من حمص المتوفاة عام 1948 صاحبة ديوان (روضة الاطفال ) الصادر عام .1932 يمكننا باطمئنان ان نقول ان ( روضة الاطفال ) اول مجموعة شعرية صدرت للاطفال في سورية لم تكن نظما لحكايات مترجمة او تراثية بل تأليفا في موضوعات لها علاقة بالطفل وعالمه .
لقد ألفت جسماني كتابها في الاساس بناء على وعي كامل بخصوصية شعر الاطفال واخذت على عاتقها الهدف التربوي السهل في المعنى والمبنى كما ذكرت في المقدمة.
ومن اجواء هذه المجموعة قولها :
عناية الكبير بالصغير .. شاهدة بجودة التدبير
يحرزها كل فتى شكور .. وكل بنت قلبها كالنور
فشكر كل محسن ضروري
وقولها اعن ( حياة المدرسة) :
ان حياة المدرسة .أشهى حياة مؤنسة
فائدة اكسبها .. خير من الملبسة
...
عن حفظنا الدرس الصغير .. نظفر بالعلم الكثير
عن قطرة فقطرة .. ويجتمع البحر الكبير
وعن( الثلج) تقول :
ما اجمل الثلوجا .. قد غمرت مروجا
وكل ذي فهم رأى.. منظرها البهيجا
يسبح الله الكريم
الثلج في روس الجبال .. تيجان مجد وجلال
وفي السهول والربى... والدور اثواب الجمال
فيمنح الخير العميم
الثلج عند الامم.. يدعى رسول النعم
فأكرموا وفوده.. لتظفروا بالمغنم
من رحمة الرب العظيم
الاسم الثالث والاكثر اهمية في رأيي هو عبد الكريم الحيدري الذي أعده الرائد الحقيقي لشعر الاطفال في سورية بالمعنى الزمني والفني معا حيث كتب الحيدري اكثر القصائد جمالا ونضجا وطرافة للاطفال في مرحلة ما قبل الخمسينيات في بلدنا .
وللحيدري ديوان وحيد للاطفال طبع عام 1937 بعنوان ( حديقة الاشعار المدرسية ) وله طبعة على الاقل بلا تاريخ .
لنقرأ ما كتب الحيدري في مقدمة الكتاب :
هذه قصائد نظمتها لكم قديما وحديثا اما قديمها وهو النذر واليسير فقد نشرته في ) مجلة الطفل) وما كاد يظهر حتى تهافت عليه نخبة من كبار الاساتذة المؤلفين ودونوا مختارات منه في مؤلفاتهم فسرني اختيارهم كثيرا اذ دلني على انني كنت موفقا في ارضاء ميولكم اللطيفة وامانيكم الطيبة.
ولا تظنوا كتابي هذا محفوظات فقط , بل هو إلى ذلك كتاب مطالعة شائقة تبعث قراءته في نفوسكم الذوق الشعري الجميل وتربي فيها ملكة الانشاء كما تربيها مطالعة القصص والكتب النثرية على ان مكتبتكم اليوم اشد حاجة الى الكتب الشعرية من غيرها لقلة من ينظم الشعر لكم خاصة .
وبالفعل.. عندما نعود الى حديقة الحيدري نقع على عدة قصائد يمكننا ان نعدها نماذج بارزة تحتذى فيما يجب ان يكون عليه شعر الاطفال على الدوام .. حيث الموضوع الطفولي واللمسة العذبة الساخرة او القائمة على المفارقة المدهشة واللغة السهلة.
كما في العصفور والطفل :
امانا ايها الطفل .. ودع ما يفعل النذل
اخي لا تمش كالوحش .. تمد الكف للبطش
بأفراخي وبالعش
فعيشي بعد لا يحلو .. فرفقا ايها الطفل
..
تصور حزن اهليكا .. اذا اخفاك مخفيكا
فان الام تبكيكا
وعنك الدهر لا تسلو .. فعطفا ايها الطفل
وللحيدري قصيدة بديعة اخرى بعنون (الخريف) تظهر فيها كل الخصائص التي عددتها قبل قليل والمتعلقة بقصيدة الطفل المتميزة:
الصيف ولى واتى الخريف.. وجوه المعتدل اللطيف
وجاء غيم وافر كثيف كأنه قطن سما او صوف
او غنم في افقنا تطوف
اهلا بفصل نفعه منيف .. قد فتحت فيه لنا الصفوف
واقبل المعلم الالوف .. يرشدنا ورشده معروف
كم سر قلبي حادث طريف .. في الصف والصف به مشغوف
من ذاك ان قام فتى عنيف .. يصيح تيها ( انني العريف)
اني بمن اطاعني رؤوف .. ومن عصاني فله توقيف
فنادت الطلاب ( يا لطيف)!
وفي الخريف طابت القطوف .. ثم ابتلت اشجارها الصروف
آه .. فأين الورق الطريف .. وأين ? اين الظل والرفيف
لم يبق الا النادر الطفيف
وانما خطا فنا العفيف.. والقبر التي حواها الريف
هذي ومن امثالها صنوف .. قد ها جرت الانا لها مخوف
الى اللقا ..ايها الضيوف!
ومما له اهمية خاصة عند الحيدري اهتمامه بالشعر المكتوب لأطفال الروضة او الاطفال في مرحلة ما قبل القراءة والكتابة كما في (حسابي) التي تجمع بين المعلومة الحسابية البسيطة والايقاع الراقص المحبب:
اعـد في مكانيه .. درا همي في ثانية
اقول قرش واحد .. واثنان بعض ماليه
ثـلاثـة اربـعة .. ان قروشي وافيه
وخـمـسـة فستة .. فسبعة ..ثمانية
فـتـسعة.. عشرة .. أحصيتها علانية
وقد ظل المشهد محدودا في عطائه الى حين ولادة مجلة( اسامة) عن وزارة الثقافة في 1 شباط 1969 حيث شكل استمرارها وسويتها الرصينة وانتشارها الواسع منعطفا نوعيا في شعر الاطفال حيث بات نوعا فنيا اسهم فيه اكثر شعرائنا على اختلاف في النجاح والاستمرارية.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع