اهتدى الانسان بفطرته وما جبل عليه من الفضول الخلاق الى افراغ الطبل من احشائه كي يعلو صوته ، وحين تقدم في التاريخ والتطور اكتشف من خلال الدراية بأعماق النفس النوازع التي تحرك الناس حتى لو كانت في باطن الوعي وغير مدركة.. ومن هذه الاكتشافات السايكولوجية التي أحدثت انقلاباً كوبرنيكياً في التفكير المبالغة من أجل التعويض. فكلما كبر الانسان واستطالت قامته يزداد استغراقاً في مغامراته الروحية والبحث عن مجالات حيوية لتحقيق أشواقه.. والعكس صحيح أيضاً.
زمننا هذا هو زمن الانسان الصغير ، أو ما يسميه ويلهالم رايش الانسان الترانزستور والذي أسماه ديستويفسكي من قبل الانسان الصرصار ، ولأنه انسان صغير يبحث عن أشياء كبيرة كي يقترن بها ويعلو من خلالها ، والآن استطالت الأحذية وبلغ بعضها ربع متر لأن الخطوة قصرت والأقدام تآكلت وضمرت أصابعها ، لأنها لا تتلقى الأوامر بالمشي من الدماغ بقدر ما تتلقاها من عصا سائس القطيع..
ولأنه زمن صغير أيضاً فقد كبرت فيه الساعات وأصبح بعضها بحجم ساعة حائط ينوء بها معصم نحيل.. ولم تعد صفة انسان كافية لتصنيف هذا الكائن الثديي الضاحك أو المفكر كما ينعت فلا بد من عدة ألقاب ، تسبق الأسماء أو تعقبها ، حتى المهن لم تعد ذات دلالة واضحة إذا لم يضف اليها ما يوهم الآخرين بالحجم والوزن رغم أن حبة ماس تعادل قناطير من الحديد والعصفور قد يداعب الفيل على طريقته وينجو من خرطومه لأنه أرشق منه ، وتبعاً لما يراه علماء النفس والاجتماع فإن المفردات التي تتعلق بالمفاضلة ، تكثر عندما تشح القيم الحقيقية ، ولعلّ هذا هو ما دفع الكاتب كونديرا الى تأمل أناشيد الدول الرسمية في العالم كله ، ليجد أن الدولة كلما كبرت صغر نشيدها وتواضع وكلما صغرت كان نشيدها امبراطورياً لا تتقن عزفه غير الطبول.
الانسان يثرثر عما ينقصه ، سواء كان مادياً أو معنوياً ، فأكثر الشعوب ثرثرة عن الديمقراطية هي تلك التي لم تتذوق جرعة واحدة منها ، وأكثر النساء ثرثرة عن الشرف يثرن لدى من يستمع اليهن الريبة ، بعكس من أعادوا تعريف الانسان ، فلم يقبلوا بأنه حيوان ضاحك أو مفكر.. وقرروا أنه الحيوان الخجول ، لأن الخجل سمة آدمية بكل ما يعنيه من الندم ونقد الذات ، ومعرفة قدرها..
وهناك تجربتان تستحقان الاستذكار في هذا السياق احداهما عاشها شاعر فرنسي امتلأت شقته الصغيرة بالكتب والأجهزة حتى لم يعد له مكان ينام فيه فقرر أن يتخلص من كل شيء باستثناء مقعد ومائدة صغرى.. والأخرى عاشها مواطن بريطاني اكتشف أنه الطارىء بل الفائض في غرفته ، لأن كل الأجهزة بدءاً من التلفزيون حتى المكنسة الكهربائية قد احتلت مكانه ، فقرر أن يعود الى المربع الأول.. ويستعيد سيادته الآدمية على هذه الأشياء..
وحين نقول بأن زمننا صغير وانسانه ترانزستور فاننا لا نخضع لتلك النوستالجيا التي طالما دفعت الناس الى التصور بأن الماضي هو الأبهى بل هو الفردوس المفقود.. ان ما يدفعنا الى هذا الاعتقاد اضافة الى القرائن الاستهلاكية هو ما يفرزه هذا الانسان الصغير من أفكار حول جنسه وتاريخه ومستقبله ، فأحلامه صغرت حتى توقفت عند شقة أو سيارة وأحياناً عند وظيفة تسد الرّمق وهي غالباً لا تسدّه ، ومن كان الكون كله بيته رغم عدم وجود تلفزيون وكمبيوتر ووسائل اتصال أصبح الآن أسير جُحْرًه ، والمفارقة أنه صدق ما قيل له.. وهو أن العالم قرية ، وأنه قادر على أن يكون ابن بطوطة أو مجلاّن أو فاسكو دي غاما وهو مستلق على السرير أمام صندوق العجب،
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور