لم يكتف العرب السائرون نياما بقبلنة الدول وعشرنة الاحزاب بعد ان تحولوا الى ميداس معكوس لا يحول التراب اذا لامسه الى ذهب بل يحول الحداثة اذا مسها الى جاهلية ، واذا كانت قبلنة الدول سياسيا قد حظيت بمن يكتب عنها ، ولو لماما ، فان قبلنة العلم هي ما يجري تشكله الان ، لكن على نحو مشوه واقرب الى المسخ ، ولا اظن ان هناك شعوبا في العالم تزعم بانها انجزت بمجموع افرادها ما انجزه فلاسفة او علماء محددو الاسماء والصفات والمواهب.

لان هؤلاء الذين يكدحون في صمت سواء في مختبراتهم او بيوتهم يقدمون اختراعاتهم للانسانية لانها منجز عابر للقوميات والقارات والهويات ، ارسطو ليس اغريقيا فقط ، وجان جاك روسو ليس فرنسيا فقط ، وهيجل ليس مجرد الماني وكذلك ماركس وكانط واينشتاين وبقية السلالة ، ولو كان ابن خلدون عربيا فقط لما سارع الى اكتشافه الغربيون قبلنا ، ومن يقرأ كتاب ايف لاكوست عن هذا الرائد الانساني في علم الاجتماع قد يضطر الى اعادة النظر في الانساب قدر تعلقها بالعلم ، واذكر ان الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار بوفدار كتبت مقالة ساخرة بعد وصول ارمسترونغ الى القمر ، قالت فيها ان من يدعون بان الانسان قد وصل الى القمر يوهمون انفسهم بحصة من هذا الانجاز فمن وصل الى القمر هو شخص محدد الاسم ، والملامح وليس الجنس البشري كله من الصومال الى السويد مرورا بجزر القمر.

والمثير للاستغراب هو ان بعض الشعوب التي عاقبت مفكريها وفلاسفتها وكفرّت علماءها اثناء حياتهم هي ذاتها التي تسارع الى تبني هؤلاء وادعاء النسب اليهم عندما يعترف بهم العالم ، حتى لو كان هذا الاعتراف قادما من وراء الحدود..وحين يزهد شخص عادي او مطربة من الدرجة الخامسة بانهما حصلا على جائزة نوبل لان فردا من المجتمع الذي ينتسبان اليه حصل على هذه الجائزة فذلك خطأ مزدوج ، وهو عدوان سافر على الفرد الذي كابد وكافح وتحمل البرد والجوع قبل ان ينال مثل هذا الاعتراف.

وما ينطبق على نوبل ينطبق بالدرجة ذاتها على كل الاعترافات والجوائز الدولية ، واحيانا يخطر ببالي ان اسأل هؤلاء الذين يسطون ويستولون على جوائز الاخرين.. اين كنتم عندما كان هؤلاء يعانون؟ ويستدينون لتعليم ابنائهم او علاج امهاتهم؟

والامثولة العربية التي لا تفارق ذاكرتي هي ما انتهى اليه بدر شاكر السياب ، الذي طردت زوجته وابناؤه من البيت الذي كانوا يعيشون فيه في اليوم الذي دفن فيه ، ثم اعيد له الاعتبار بعد اعوام وربما كان في مقدمة الحفل هؤلاء الذين حكموا على عائلته بالتشرد ، صحيح ان المنجز الفردي قابل لان يصبح ملك شعب او امة ، لكن ذلك يشترط جدية هؤلاء ، وجدارتهم بالاستحقاق ، والجوائز الكبرى والاعترافات الدولية لا تمنح لشعوب او قبائل بل لافراد تفوقوا وتجاوزوا شروطهم الباهظة وقدموا للانسانية ما يضيف الى تراثها الخالد.

ان قبلنة العلم وعشرنة الثقافة هي من نتاج عصر عربي مظلم ، له من الحداثة قشرتها وطلاؤها السطحي ، لكنه ما ان يغضب قليلا حتى يطل جبلة بن الايهم من تحت بدلته الانيقة.

بقي ان نتساءل.. ماذا لو بقي هؤلاء المبدعون في بلدانهم؟ ولم تعترف بهم الولايات المتحدة واوروبا؟ هل كانت كرامتهم ستبقى حتى لو كانوا انبياء؟؟


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور