عندما أصدر الشاعر الراحل محمد الماغوط كتاباً بعنوان سأخون وطني ، لم يفكر الرقباء العرب بمصادرته ، لأن من يخون وطنه بالفعل لا يعلن ذلك ، ولا يجعل منه عنواناً صريحاً لكتاب ، كل ما في الأمر أن ذلك الرجل الذي كان لضحكته الساخرة مذاق أمرّ من العلقم أراد أن يسخر من عدة ظواهر في حياتنا العربية على طريقته ، وقد خطر ببالي عنوان كتاب الماغوط عندما اخترت عنوان هذه المقالة ، فالعملاء لا يعيشون لأنهم موتى يجرجرون أحشاءهم وتقتادهم رائحة ما يشتهون الحصول عليه من أنفهم الى حتفهم،

وباختصار فإن ما دفعني الى المجازفة بهذا العنوان هو ما سمعته ذات يوم في بلد عربي تربى أطفاله ورجال أعلامه على هجاء بلد آخر رغم ان البلدين توأمان ، لا بمقياس تاريخي فقط ، بل بمقياس أيديولوجي ، وحين تقررت المصالحة المفاجئة بين الشقيقين اللدودين كان لا بد من استقبال زعيم البلد الآخر وطلب من الأطفال الذين أخرجوا من المدارس الى الأرصفة أن يهتفوا بحياة الزعيم الضيف ، لكنهم لم يفهموا بسهولة كيف يمكن لمن كان خائناً وعميلاً بالأمس أن يصبح عظيماً ووطنياً اليوم ، فاختلط الأمر عليهم وهتفوا وهم لا يدركون.. يعيش العميل فلان.. ولا ندري لماذا لا يدخر الاعلام العربي في ثلاجاته شيئاً احتياطياً قد يحتاج اليه فجأة وبلا سابق تمهيد أو انذار ، فالهجاء المتبادل هو أبرز ما أفرزته ثقافة ملوك الطوائف الاندلسية ، لهذا تورط الأطفال بتلك المزاوجة المثيرة للسخرية والاشفاق معاً عندما هتفوا بحياة العميل.

ويتناسى فقهاء الاشتباك الاعلامي في الوطن العربي أن هناك عادات ذهنية وأخرى لسانية تمكث حتى بعد زوال أسبابها ، فمن قيل للأطفال والبالغين معاً أنه عميل طيلة عقود ، لن يتحول الى بطل وزعيم قومي خلال أربع وعشرين ساعة فقط ، وهكذا استطاع الاعلام الأعمى أن يصطاد رغم عماه عصفورين بل صقرين بحجر واحد ، فقد ألغى الفارق بين العمالة والوطنية على الأقل من خلال أطفال المدارس الذين سيتساءلون ذات يوم من هو البطل ومن هو العميل ، اذا كان الجميع أبطالاً وعملاء في آن واحد ، فحاصل جمع الأوصاف التي أغدقها هذا الاعلام على دول وأحزاب وزعماء هو تخوين شامل ، ما نتمناه بل ما نتوسله من هذا الاعلام المُدْمن هو أن يتريث قليلاً قبل احراق السفن ، واستخدام كل ما في حوزته من الهجاء والتخوين والادانة للطرف الذي يختلف معه ، وذلك رحمة بأطفالنا أولاً ، كي يبقى الخط الأحمر واضحاً في أذهانهم بين الزعيم الوطني والعميل ، وبين الحياة والموت ، والصواب والخطأ والجمال والبشع ، فهل تكفي الأمثلة التي مرّت بنا خلال ستّين عاماً من التَّخوْين المتبادل كي نتعظ قليلاً؟ ونبقي في الثلاجات بعض الاحتياطي الذي ندافع به عما تبقى من ماء الوَجْه؟؟


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور