ما من مرة شاركت فيها بندوة تحت عنوان أزمة سواء تعلقت هذه الأزمة بالثقافة او السياسة او الاقتصاد ، الا وخطر ببالي على الفور ان فهمنا كعرب للأزمة إما ان يكون قاصراً او لمجرد الهروب من مواجهة الحقائق كما هي على الارض ، فالأزمة بأبسط معانيها هي ضيق بعد انفراج ، والسؤال هو متى كانت هناك انفراجات في حياتنا؟ فمن يقرأ التاريخ بعيداً عن الأفقية والتسلية يجد ان خيط الدمع لم ينقطع وكذلك خيط الدم.

دول قامت على انقاض اخرى ، فالدولة العباسية ليست المثال الوحيد لمتوالية الانشقاق في تاريخنا الذي تناوبته ثنائيات الغساسنة والمناذرة والاوس والخزرج والأمين والمأمون بدءاً من بواكيره حتى ما يجري الآن في فلسطين رغم ان العدو واحد.

والندوة التي شاركت بها مؤخراً في القاهرة تحدث فيها مثقف ورجل قانون مخضرم هو د. يحيى الجمل وروائيون منهم يوسف القعيد واعلاميون وناشطون ، وسمعت في الندوة ما سمعته دائماً وهو المقارنات الشجية بين الاسى واليوم ، رغم ان الأسى لم يكن ذهبياً على الاطلاق ، لكن من لا يعيش الماضي يتلذذ في تخيل ما هو بهي فيه ، فالظلم تبدلت أنماطه وكذلك الاستبداد والعسف ، لكن جوهر هذه المحاصيل الشقية لم يتبدل ، لأن التاريخ لا يزال في ظهيرته ، وليس في خاتمته كما نعاه فوكوياما وآخرون لمن حاولوا مصادرة المستقبل وتطويبه لصالح هذا الوقت الريادي الذي تحول فيه عالمنا الى كوكب أعرج ، ولس مهماً استذكار او سرد ما قيل فهو متكرر كما نعلم لكن المخضرمين امثال د. الجمل الذي شهد على العقود السنة الماضية لم تحل سنواته الثمانون دون التعبير بسخرية مريرة عن المتوالية القومية المعكوسة ، فالساعة تدور عقاربها الى الوراء بانتظام. وهذا ما يسمى قانون نمو التخلف ، كمضاد لقانون نمو التقدم فمن يبكون اليوم على الأسى بكوا في الأسى على ما قبله ، لهذا بدت حياتنا العربية في العقود الماضية كما لو أنها بصلة تقشر وليس لها لب او محتوى غير ما يتراكم من القشر ويسيل الدموع.

ذلك لأن الاسئلة الحقيقية محرمة ويتم استبدالها بأسئلة سهلة قابلة للاجابات الجاهزة والسريعة ، ولم تفحص حتى الآن عينات من ذلك الارث الباهظ الذي عطب البوصلات كلها وخلط الحابل بالنابل ، بحيث لا ندري ما اذا كان المخطىء يعاقب او يكافأ والعكس صحيح أيضا،.

اننا منذ اواسط القرن التاسع عشر الذي شهد نهضة واسعة سرعان ما اجهضت ونحن نعود في كل مرة الى اول السطر ، بل الى الصفر ، وكأن ما يبنى هو عتبات تفضي الى عتبات وراءها وما من جدران او بيوت،

مع الحياة والناس ـ بقية

وبراقش التي جنت على نفسها وأبنائها وأحفاد أحفادها لم تعتبر من كل ما مضى ، ولم تتلقح بالتجارب المرة لكي تتفادى تكرارها ، فما أشبه الليلة بالبارحة ، أما مراوغة الثعالب فانها تتبدل أحيانا ، لكن النوايا هي ذاتها ، اننا باختصار لسنا مأزومين ، لأن الانفراج لم يكن ذات يوم ، ومن قالوا اشتدي أزمة تنفرجي ، فوجئوا بانها تنفجر ، لأن تراكم التأجيل والفرار من مواجهة قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية وعادات وأعراف تحول الى مديونيات باهظة ننوء بها نحن الأحياء وقد لا يطبقها القادمون لان التاريخ في حالات كهذه يمارس نوعاً من الربا ويضيف الى الاستحقاقات المؤجلة نسبة لا يستهان بها. وحين نرى كل هذه الجامعات ومراكز الابحاث والصحف والفضائيات نتساءل باندهاش: أي غفران يرتجى بعد هذه المعرفة؟.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور