جاعت ولم تأكل بثدييها ، لانها حُرّة ، وعطشت رغم انها تغسل قدميها في البحر لأنها لم تلعق دمها كما تفعل القطط حين تُحشى برادة الحديد في افواهها ، كانت قطاعا ثم صارت قطيعة ، وحوصرت حتى من الجهة الخامسة فردد اطفالها تحت السّقوف المهدمة "كل ما لا يقتلنا يقوّينا ، وكل رصاص يخطئنا نتلقح به ضد الصاروخ الاعمى والقنبلة المحشوة بالحقد". وثمة من يجوع ويحاصر ومن يحصي الايام والاعوام العجاف ، تماما كما ان من يجلد بالعصيّ ليس كمن يعدها ، ومن يتدفأ على النار عن بعد ليس كمن تصطلي اصابعه في جمرها،.

لقد بلغت استغاثات جرحى وأطفال ارادوا تحويل مهودهم الى توابيت صغيرة فاستحالت خنادق استراليا ونيوزيلندة وربما المريخ لكنها لم تصل ذوي القربى ، فكان الحصار الآخر اشد مضاضة ، واحيانا يصقل الحصار الانسان فيصبح عوده اشد صلابة ، والقلم الرصاص بيد طفل لا يكتب الا اذا بري وخسر شيئا من بدانته ، ولعل حصار الارض للفحم ملايين السنين في باطنها هو ما جعله يتعذب حتى يتجوهر ويتحول الى ماس ، رقيق ومتلألىء بقدر ما هو ماض وجارح،.

اعرف ان كل كتب العالم لا تكفي بديلا في لحظة ما عن حبة دواء او عن انبوبة اكسجين وجرعة جلوكوز لمن يختنقون على حافة الحياة ، لكن اضعف الايمان هو ان نصرخ بعد ان اوشك اللجام ان يبتر الالسنة.

الف ليلة وغزة ، هذا هو عنوان الحكاية العربية في الزمن الاخير ، فلا شهرزاد تواصل البوح حتى الصباح ولا سيف في يد شهريار لان الديكة صلعاء ، ولم يتبق لها ما تزهو به على الدجاج ، اما السيوف فمن يريد ان يتذكرها فعليه ان يذهب الى المتاحف وقد لا يجدها ، لان استئصالها من القصائد والكتب قد ينتهي الى استئصالها من المتاحف ايضا.

نحن نعيش زمنا يعيش فيه الانسان ليأكل وليس العكس ، والرغيف وحده كاف لاقامة سلطان الانسان الصغير على الارض ومن سخروا من حكمة الاشجار التي تموت واقفة قرروا ان يموتوا راكعين،،.

لو كان الاعتذار لكل طفل وطفلة وشيخ في غزة يكفي ، لما ترددنا في تقديم كل ما يرادف كلمة الاعتذار في لغتنا ، ولو كان الكلام وحده يكفي ، لقلنا ان هؤلاء اولى بالثرثرة من هذه الشياطين المحمولة التي تسمى موبايل.. لكننا نعيش في عالم قد يتعذر على القادمين فهمه ، خصوصا اذا قرأوا ما قرأنا بالامس عن افقر بلد في العالم ، ينفق على الثرثرة بالمحمول ضعف ما ينفق على الغذاء والدواء،.

لكن من هم المحاصرون؟ اذا اردنا اعادة الاعتبار لكلمة حصار ، وعرّفناها بدقة.. هل هم هؤلاء ام نحن جميعا؟ اجابني عن هذا السؤال مثقف فرنسي من الناشطين من اجل فلسطين ، ثم اضاف نكتة سوداء عندما قال لو غيرنا موقع اليافطة على مدخل مستشفى المجانين او حديقة الحيوان فلن يتغير الامر.. ولن يصبح العالم كله خارج المستشفى هو مستشفى المجانين كما ان الحيوانات لن تتبادل الادوار مع البشر بحيث تقف مذهولة وهي تتفرج على حديقة بوسع كوكب،.

الف ليلة وغزة.. فيا شهرزاد.. لا تنتظري صياح الديك.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور