العولمة السحرية هي شكل من أشكال الليبرالية الجديدة ، وقد نتجـت مـن اندمـاج ثـلاث منظومــات رئيسة : (الرأسمالية ، والإعلامية ، والمعلوماتية) ، وتنتمي مرحلتها إلى مرحلة جديدة يُطلق عليها مرحلة ما بعد الاستعمارية (post-colonialism) ، وتشير العولمة إلى صيرورة العالم واحداً ، أي جعل العالم قرية صغيرة ، وهناك من عدّها مؤامرة لغوية ، وهناك من وصفها بالرؤيا الكارثية التي تقترب من نهاية العالم ، وتمثل العولمة لعبة مميتة والمرشح فيها للموت هو الجانب المضيء والمتدفق خيراً وحباً ، إنّها حرب الجانب المادي على الجانب الروحي ، إنها اغتصاب سلطان القلب على حساب العروش التي ستتربع عليها ، عروش خلت من الجزئية والقومية والوطنية والأقلمة لتتحول من ثم إلى العالمية والموسوعية والكوننة ، إنها تحول مفاجئ من سلطة الفرد إلى سلطة المجموع ، إنها فعل محاكمة للقدرات المحدودة للفكر والانتقال إلى لا نهائية السلطة ، إلى السيطرة المطلقة على مقدرات الفكر العالمي ، وصهر الجهد المعرفي المنتشر على بقاع المعمورة في صيغ مقنعة ومعقلنة من الأطر العلمية ، والمروجة لها ميتافيزيقا عقديّة حيناً وعبثية حيناً آخر ، تجعلنا نسلم بضرورة إتباع نهج الآخر في مسرّاته وأحزانه ، في نهجه الصالح والطالح ، في نصوصه وأنساقه ، في إبداعه وخطاباته ، وتجعلنا نؤمن أيضاً بأنّ جاهزيات المشروع العولميّ هي الصيغ الإنسانية التي من تمسك بها اعتصم ، ومن تخلف عنها انفصم ، إنها لعبة لن ترقى إلى نهاية أبداً ، إنها لعبة (بوكيمون) لكن بصورة علمية وعقدية قد تقترب من الإقناع والاهتداء المنهجي المنظم بفعالية وغائية غاية في الإدهاش .
وينظر إلى العولمة في بلادنا على أنها فعل اغتصاب ثقافي ، وعدوان رمزي على سائر الثقافات ، إنها رديف الاختراق الذي يستخدم العنف ، إنها إمبريالية جديدة لها أيدٍ مطلقة تستطيع التصرف في العالم وشؤونه كيف تشاء ! ، إنها ثقافة الكراهية ، وثقافة العنف ، وثقافـة الاختراق ، إنها الغزو الثقافي ، والتبعية ، .. .
إنّ العولمة ليست ظاهرة محايدة بين الحضارات والثقافات بل هي إفراز ثقافة متحيزة بعينها وهي الثقافة الأمريكية ولذلك قيل أنها تمثل مصطلح الأمركة (Americanization) وإفرازاتـه ، وللعولمة مفاهيمها الخاصة التي تنطلق من مصطلحات عدّة ، كيف لا وهي المهيمنة على مقاليد الحكم المعرفي والفكري العالمي المعاصر ، ومن تلك المفاهيم : نهاية الحدود ، وتغريب العالم ، ومحو الهويات ، وظاهرة العصر ، ومؤامرة ثقافية ، ونفي الوجود القومي ، أداة للهيمنة ، مسخ للهويات الوطنية ، محو للخصوصيات الثقافية ،… إلخ ، وتهدف من خلال تنوع مفاهيمها إلى تحقيق إمكانيات عدّة ومتنوعة إنطلاقاً من تحويل الثقافات المتعددة إلى ثقافة واحدة ممركزة حول المعطى الغربي الرأسمالي ، وتحويل الدولة والأمة والوطن إلى الإمبراطورية العالمية الجديدة التي لا تمتلك حدودا لأنها منتشرة في الواقع العالمي الواسع ، فضلاً عن مسخٍ للهويات القومية ، وتحويل الثقافات المُأقلمة إلى ثقافات مهمشة وغير معلنة ـ أي مندثرة ـ ، لأنها ستكون منصهرة بثقافة العولمة الممركزة حول نموذج الأمريكي المخلص للبشرية جمعاء !! ، وتسعى العولمة جاهدة إلى تفعيل كلّ تلك الإمكانيات بأقل جهد ممكن على الصعيد الثقافي والمعرفي ، وإنتاج أكثر ما يمكن إنتاجه من السلع والأشياء بأقل ما يمكن من الأيدي العاملة ومن الجهد العملي ، ولهذا رسمت النتائج الأولى لها بـ(زيادة الفقر ، وارتفاع نسبة البطالة ، وزيادة الهوة بين الدول ، والاعتناء بالمادة على حساب الإنسان ، فضلاً عن تغييب متعمد للجانب الروحي قياساً للجانب المادي المجرد).
وقد تمرر العولمة في بلادنا العربية والإسلامية ضمن منظومة اصطلاحية مغرية هي : ثقافة الانفتاح ، وثقافة التعدد والاختلاف ، وثقافة التكيف ، وثقافة الإصلاح القومي ، .. ، وتتحدد مفاصلها ـ كما أشار البعض ـ بشل الدولة الوطنية لتذويبها في المنظومة الرأسمالية ، وتوظيف الإعلام ووسائل الاتصال في عملية الاختراق الثقافي للدول الصغيرة والضعيفة ، والتعامل مع العالم وفقاً لمنطق البقاء للأصلح ، والأفضلية لصاحب القوة ، وأن الغاية تبرر الوسيلة ، وأن الحرية كلّ الحرية عندما يسعد الفرد بعرض جسده دون خوف أو وجل ، وأن يمنحه للآخرين ويتبادل معهم تلك الحرية علناً أو خفية .
والآن ما هي سياسة العولمة ـ أمريكية الأصل ، أوربية التطبيق ـ في تعاملها مع الشعوب العربية والإسلامية ؟ .
تتضح هذه السياسة من خلال ممارسة ثقافة الكراهية مع هذه الشعوب مما سبب للولايات المتحدة عزل إدارتها ، وجنوحها إلى ممارسة الآتي:
1. الإرهاب المستمر تجاه الدول الضعيفة عسكريا ، والإرهاب الذي مارسته ضد افغانستان والعراق مثال على ذلك .
2. إغلاق السفارات .
3. تجميد الأرصدة .
4. دعم الإرهاب الصهيوني بلا حدود .
5. الضربات الإستباقية بدعوى التهديد والإرهاب .
6. إغلاق المعاهد والمدارس الدينية في بقاع مختلفة من العالم .
7. إقفال الجمعيات الخيرية ، بدعوى تمويلها للإرهاب .
8. الإعتقالات المستمرة للأشخاص دون محاكمات .
9. فتح سجون للاعتقال عبارة عن أقفاص لا تصلح إلا للحيوانات ! ، يُحتجز فيها من تراهم الولايات المتحدة إرهابيين ! وسجن غوانتنامو شاهد على ذلك .
10. الهيمنة على المنتديات والأنشطة والمحافل والتجمعات الدولية .
هل نقبل العولمة أم نرفضها ؟ كيف ستتعامل المجموعة الثقافية العربية مع العولمة وهي متجذرة في الوقت نفسه في بيئتها ذات الخصوصية والتوجهات المختلفة عن الدوائر الغربية ؟ هل ستكف العولمة عن وصفها أداة للهيمنة لتصير أداة للمشاركة ؟ وفي مقابل ذلك هل نحن بحاجة إلى تقديم خطابنا الثقافي في مواجهة العولمة ، أم نحن بحاجة إلى خطاب العولمة في مواجهة خطابنا الثقافي المتأزم ؟ إنّ الثقافة العربية والإسلامية بحاجة اليوم إلى تحويل خطاب العولمة من خطاب الهيمنة إلى خطاب المشاركة، بمعنى تقديم خطاب العولمة المضادة الذي يقوم على آلية النقض الجدلي العقلاني ذو الوسائل البديلة ، فنحن بحاجة إلى عولمة إنسانية في مقابل العولمة الوحشية ، وعولمة الحق ضد عولمة الباطل ، وعولمة المعرفة ضد عولمة الجهل ، وعولمة الحرية ضد عولمة الاستبداد ، وبإمكان العولمة المضادة أن تقدم ثقافة تقديس الجسد والتمتع بالأصالة والحداثة والتطلع إلى المستقبل من خلال الربط بين الجانب المادي والجانب الروحي ، في مقابل ثقافة الاستهلاك وتعرية الجسد والمتعة واللذة والركون إلى الجانب المادي بكل تبعاته ، فإذا استطعنا إصلاح ضعف إيماننا ، وراعينا سُسن الله في الكون والحياة ، واستفدنا من إمكانياتنا البشرية والمادية ، واعتمدنا على مقدراتنا في سِلمنا وحربنا ، وطورنا مؤسسانتا التعليمية والاقتصادية لقدمنا عولمتنا المضادة .
إنّ العولمة المضادة تتحدد من خلال بروز الطبقة المثقفة التي تسهم في نشر الوعي بضرورة إتباع أو عدم إتباع الفكر الوافد والدخيل ، ففي كل وقت حرج من أوقات الناس تبرز طبقة متعلمة مثقفة تدعي امتلاك الحل السحري ، وتسعى جاهدة إلى تغيير ما يمكن تغييره سواء بالقلم أم بالكلمة أم بالتحريض .
وإذا كان لهذه الطبقة تأثير فهو لا يتعدى المثقفين وذوي العلم والاختصاص لأن خطابهــم ـ عادة ـ لا يتسم بالشفافية التي يبغيها العوام ، لذلك يبرز دور (الأديب) ، و(المثقف) أو إذا شئت تسميتــه : (النهضوي) بوصفه الصوت الأكثر بروزاً وتأثيراً في شرائح المجتمع المختلفة ، كيف لا وهو المتحدث باسم اللغة والفكر الآخذين بألباب الناس ، والمؤثرين على سير عواطفهـم ، والمنظِمين لسلوكهم وتصرفاتهم بل وحتى نفقاتهم ، وأحلامهم .
لكن هل وعى هذا (الأديب/المثقف) أو أدرك خطورة كونه الصوت المؤثر في الناس ، هل راعى حقاً حرمة ذلك ، بل هل قام بما يجب القيام به من أمانة أمام الله (عز وجل) أولاً ، ثم أمام الطبقات الاجتماعية على اختلاف مشاربها ثانياً ، هل يمكن القول أن الكثير ممن تصدوا لهذه المهمة ليسوا أهلاً لها !، هل يمكن الإدعاء أن (الأوراق والأقلام والنظارات المتربعة على عرش سنين خلت من القراءة ، والأيدي المحملة ليلاً ونهاراً بالكتب الثقيلة حيناً والمربكة لغة ومحتوى حيناً آخر) وما إلى ذلك من الشكل الخارجي (الزائف حيناً والمرائي أحياناً أخرى) أصبحت اليوم وعند البعض تركة ثقيلة لا يستحقها ، هل وعى البعض من أولئك ممن وقف على أرضية هداية الناس ونصحهم على صعيديّ الثقافة والأدب أن سلوكه قد لا يتفق مع ضرورات المرحلة الحرجة التي تمر بها ثقافتنا المعاصرة من التقدم والتطور إلى الخلف بخطوات متأرجحة مهزوزة ، هل أدرك أنه يهدم أكثر مما يبني ، وينخر أكثر مما يصلح ، هل يعلم أن جرعة التخدير التي يعطيها للناس كل مقالة أو كل محاضرة أو في كل ندوة باتت لا تعطي مفعولها إلا لدى السُذج من أنصاف المتعلمين ، أو لدى الذين لا يريدون تخطئة كل ذي قلم يخط الكلمات ويتلاعب بها كلّ يوم ، هل يمكن القول أن الأمانة لم تكن في وسط أهلها ، هل يمكن الإدعاء بشيء من المبالغة والحزن أن من يتصدى لدور حمل الثقافة والمعرفة والفكر لا يستحق ذلك ، كيف لا وهو لا يعلم إلا المثاليات التي قرأها هنا وهناك وتعلمها من مثاليات القرون وروادها الذين لا يعلم بعضهم كنهها ، ولم يعملوا بها في الغالب ، وكيف لا وهو قد لا يتقن العربية (لغة القرآن) ولا يعلم ما إذا كانت الأرض تدور حول نفسها أو حول غيرها أو كلاهما معاً !.
إن المؤشرات السلبية لكثيرة ، وإن الأخطاء لعظيمة ، ولكي لا نبتعد عن جوهر القضية نقول إننا نعيش فترة تشبه إلى حدّ كبير عهد سيطرة الكنيسة في القرون الوسطى في أوربا ، إذ كانت تحكم بالمطلقات ولا ترغب أن تُتهم بشيء ، فهي ممثِلة الله فـي الأرض ، وهي مركز الكون الواسع والممتد ، وهي صاحبة القرار والأمر والنهي ، من خالفها فقد خالف الله ومن حاببها أو انتصر لها فقد امتلك زمام المبادرة لرضوان الله وخطى الخطوات الواثقات إلى جنته ومحبته ، لقد عانى الأوربيون من سطوة الكنيسة وهيمنتها طوال بضعة قرون ، وضاقوا ذرعاً بهيمنة سلطة البابوات على مقاليد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى النفيسة منها ، وقد قاد ذلك إلى ثورة إصلاحية عارمة وشاملة كان من نتائجها تحرير العلم والإنسان من سطوة من لا يحسن التعامل معهمـا ، ولا يحترمهما ، ولم يعطهما حقهما في الممارسة والقول والعمل .
إنّ مثقفينا ومفكرينا الأجلاء يعيشون اليوم ـ في الأعم الغالب ـ فترة القرون الوسطـى ، ويسعون بقصد أو بلا قصد ، بوعي أو بلا وعي إلى تمثل تلك المرحلة بسلوكهم وتصرفاتهم ، وحتى لا نكون مغالين يمكننا ضرب الأمثلة على ذلك ، لا لغرض التشهير أو الانتقاد إنما لغرض التذكير والدعوة إلى التغيير وتحفيز أهل الكهف بضرورة القيام من سباتهم الذي أعماهم وأعمى من اتبعهـم ( إن أُريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ) .
لقد آلَ بعض المثقفين على أنفسهم مهمة الدعوة إلى تغيير الواقع والتطلع نحو حياة كريمة أفضل علمياً ومعرفياً ، والجهاد بالكلمة في سبيل تحفيز الهمم ، وإيقاظ ما كان نائمــاً ، كلها دعوات تشير إلى المسعى المحمود الذي يهدف إليه أولئك المثقفون ، لكن ومع تغير الأوضاع في عراقنا الحبيب (المحتل) ، ومع دخول القوات الغازية المحتلة إليه تغير النهج ، وانقلب رأسا على عقب ، وأصبحت المعايير مزدوجة ، وانقلبت الدوال لتشير إلى غير مدلولاتها : فمقاومة المحتل مثلا تحولت في الخطاب الثقافي إلى مهادنة وسلم ذليليـن ، والدعوة إلى خطاب منفتح يدعو إلى التغيير وقراءة أوراق العدو ، أصبحت الركون للآخر ، ومصافحة بعض خطاباتنا الجليلة! لتوجهات المغتصب الأمريكي سمة عصرية ولا حرج فيها ، وحذف كلمة (الاحتلال) من جميع مقالاتنا ، وبياناتها الخجولة واستبدالها بكلمة (تحالف) أصبح أمرا واقعياً يلتزم به البعض ، وأصبح مجرد الحديث عن المقاومة في الأروقة الثقافية والميادين الأكاديمية خروجا عن النهج المستقيم .
على أدبائنا ومثقفينا بأجلائهم وجهلائهم ، بروادهم وعملائهم أن يـــدركوا أن الوقت الآن ليس بصالحهم ، وأنهم مطالبون أمام الله أولا ، ثم أمام الناس ثانيا بالعمل على توعية المجتمع ، وتحصينه من الوافد الجديد الذي يكِن الشر كلّ الشر لنا ، عليهم أن يحفزوا الناس على مقاومة الاحتلال بالكلمة والقراءة والمعرفة والتسلح بإمكانيات المنتوج الثقافي العربي والإسلامي ، عليهم أن يدركوا أن المعركة المقبلة لن يستخدم فيها السلاح المادي المجرد ـ الذي تذوقنا منه نحن العراقيين مختلف الأصناف والأشكال والأحجام ـ ، بل ستستخدم صنوف أخرى أشد فتكاً وإغراء ونخراً في البنية العقدية والعرفية التي يحملها الفرد ، عليهم أن يضيئوا منبر الكلمة الحرة والموظفة لخدمة الفرد والمجتمع ، بعدما سادته العتمة بجهل بعض الأقلام وتقصيرها ، عليهم تفعيل قوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبلنا ) ، إن بلدنا لمحتل ، وإن ثرواتنا ليست بأيدينا ، وإن هويتنا مهددة بالزوال في ظل العولمة الأمريكية ، وإن مستقبلنا لا ينبئ بخير ما دام البعض بجهله باقٍ لتمثيلنا ، لسنا بحاجة لكم إن كنتم مهادنين لغيرنا ، لا نريد منكم التحدث باسم واقعنا لأنه بريء منكـم ، لا نريد أقلاماً تهدم أكثر مما تبني ـ على غرار البابوات الذين هدموا الكنيسة وأساءوا أكثر مما أحسنوا ـ لا نريد غرفاً للاعتراف بفضلكم فإنّ بعضكـم ليس أهلا للثقـة ، لا نريد ألسنتكم التي أصابها القيح والصدأ ، لا نريد صوركم التي عشعش عليها الوهن والضعف .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع