تبدو الصورة النمطية العربية عن المستوطنين مختزلة بأنهم بمثابة السرطان الممتد داخل الأرض الفلسطينية وأحد مصادر التهديد الرئيسة لأي حل سياسي للقضية الفلسطينية. هذه الصورة صحيحة نسبيا، لكن هناك تفاصيل متشعبة وجوانب أخرى للموضوع تتحكم في تحديد حالة المستوطنين ووضعهم العام. فعلى سبيل المثال تبرز العديد من وجهات النظر الإسرائيلية اليوم ترى في ظاهرة المستوطنات سرطانا يهدد المجتمع الإسرائيلي ذاته من ناحية. وأنها -من ناحية أخرى- عبء اقتصادي وسياسي وأمني كبير على الدولة الإسرائيلية، وهذه الرؤية لم تعد تمثل أقلية من اليساريين أو أدعياء السلام في إسرائيل، بل أصبح حتى عدد من السياسيين اليمينيين يشترك معهم في هذا التصور العام.
    الملاحظة السابقة لا تنفي أنّ هناك بعدا دينيا وأيدلوجيا حاضرا في ظاهرة الاستيطان منذ بداياتها، وهو ما يمكن أن نلمحه في ازدهار العديد من الحركات الدينية المتطرفة داخل المستوطنات، لكن هناك في المقابل بعدا إنسانيا نفعيا يجب ألا نتجاوزه عند التعامل مع المشروع الصهيوني ومع ظاهرة الاستيطان بشكل خاص، وهذا البعد الإنساني، يمكن أن نلتقطه في قراءة المفكر العربي د.عبد الوهاب المسيري للحركة الصهيونية من خلال موسوعته الكبيرة والعديد من الكتب والمقالات المنشورة له.
    يحاول المسيري التأسيس لمنظور فكري عربي يقوم على "أنسنة الصهيونية" وتحليل العوامل والبني المركبة المتفاعلة داخلها وجوانب الضعف والقوة في كيان الدولة والمجتمع وتعريف دور العامل الديني وتمييزه عن البعد الاستراتيجي. في هذا السياق يرفض المسيري اختزال دولة إسرائيل في الديانة اليهودية، ويرى أنّها إفراز للتشكيل الاستعماري الغربي، وشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، الذي يقوم باغتصاب الأرض من أصحابها، وبطرد سكانها الأصليين منها، وإبادتهم إن أمكنه ذلك، شأنها شأن كل الجيوب الاستيطانية الأخرى. كما أنّ التسليم بأن الموجودين في إسرائيل اليوم هم من اليهود مسألة فيها نظر عميق وشك بالغ؛ فعدد كبير جداً من السكان جاؤوا بحثاً عن دواعي الأمن والمصالح الاقتصادية الموهومة، وهناك عدد كبير مما يسمى باليهود الفلاشا واليهود الشرقيين ما يزالون يتمسكون بعاداتهم وثقافاتهم المرتبطة بالبلد الذي جاؤوا منه، ولا يربطهم بالديانة اليهودية سوى الإدعاء من أجل الوصول إلى دولة إسرائيل سعياً إلى شروط حياتية أفضل. فعدد كبير من الشباب الإسرائيلي اليوم ملحد ومنحرف أخلاقياً، وغير مؤمن بالديانة اليهودية ولا بالتوراة أو التلمود، ونسبة تناول لحم الخنزير -مثلا- المحرم في الديانة اليهودية كبيرة جداً. 
     هذه "النظرة الدنيوية" (التي لا تستبعد الفاعل الديني) تنعتق عن المنطق الخطير الذي ما زال يحكم جزءا من الرأي العام العربي والإسلامي وينظر إلى اليهود كـ"ظاهرة خارقة"، ويعزز هذا المنطق أدبيات تبالغ في قدرات اليهود ما يسمى بـ"بروتوكولات حكماء صهيون". والسؤال الموضوعي الذي يطرحه المسيري هنا: إذا آمنا بما جاء في البروتوكولات بأن اليهود قادرون على فعل أي شيء بأية وسيلة، وأنهم كانوا وراء الأحداث التاريخية الكبرى كالثورة الفرنسية والأمريكية، ووراء أساطين الفكر والمعرفة الغربية، وأنهم يملكون اليوم النفوذ الكبير والمهيمن داخل القوى الكبرى والمؤسسات الدولية، فماذا بإمكاننا أن نفعل؟! أليس من الأجدى تقديم صورة أخرى أكثر موضوعية تنطلق من منطق عملي وليس من رؤية ميثولوجية.
   إذا أسقطنا المنهاج الموضوعي السابق على قضية المستوطنات نجد أن المسيري يقدم لنا صورة مختلفة وتفاصيل أدق من التصور النمطي العام السائد  في كثير من الأحيان، وتساعد الصورة الجديدة كثيرا على إدارة الصراع مع إسرائيل سواء كان هذا الصراع عسكريا أو سياسيا أو إعلاميا. ومن أبرز معالم هذه الصورة أن هناك تراجعا في الإجماع حول الاستيطان ومشروعيته، والنظر إلى المستوطنات والمستوطنين على أنهم أصبحوا عبئاً مالياً وأمنياً وسياسياً على دولة إسرائيل.
   وما لا يدركه الكثيرون في الوقت الحاضر أن نوعية المستوطن الصهيوني في غزة والضفة الغربية تختلف تماماً عن نوعية المستوطنين في الماضي؛ فقد كان المستوطن في الماضي نموذجاً يشد كل اليهود، وكان الصهاينة يطلقون على المستوطن اليهودي كلمة "حالوتس"، أي رائد وفي اعتقادهم أن هذا المستوطن كان يأتي لأرض بكر عذراء، فيستولي عليها ويطهرها من سكانها ثم يحرثها ويزرعها ويحرسها بنفسه، ولذا فهو يمسك بالبندقية بيد والمحراث باليد الأخرى.
   ووفقا للأيدلوجيا الصهيونية فمن المفروض أن يعيش المستوطن حياة متقشفة ويدين بالولاء للحركة الصهيونية التوسعية، وكان يُعدُّ طليعة الشعب اليهودي والقوة العسكرية الإسرائيلية. وبعض جوانب هذه الصورة كان حقيقياً حتى عام 1967، ولكنها تغيَّرت بشكل جذري بعد ذلك التاريخ. فالمستوطن الجديد شخص مُرفَّه يبحث عن راحته ولذته ومنفعته. وقد وصف المعلِّق العسكري الإسرائيلي البارز (زئيف شيف) التحول في مفهوم الأمن لدى المستوطنين باصطلاح "الأمن ديلوكس" أو "الأمن الفاخر"؛ فالمستوطنون الصهاينة الجدد في الضفة والقطاع لا يريدون أن يحملوا البندقية أو المحراث ويطالبون الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن الأخرى أن يضمنوا لهم نوعاً من العيش الممتاز في المناطق المحتلة، وأن تكون حياتهم مكفولة أمنياً. وطبيعة الأمن الذي يطلبونه بالمواصفات التي يطلبونها ليست موجودة في أي مكان آخر في إسرائيل، وإسرائيل بأكملها لا تتمتع بمثل هذا الأمن الفاخر. كما زادت حدة الجدال والانتقادات التي يوجهها جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي للمستوطنين وأوضاع المستوطنات، والعبء الذي تضعه على كاهل إسرائيل إلى درجة وصفت فيها المستوطنات بالسرطان الذي يأكل جسد المجتمع الإسرائيلي.
   في المحصلة، وبعيدا عن الاختلاف في تحديد مسار المواجهة والصراع مع المشروع الصهيوني والتعامل مع دولة إسرائيل، فإن الفكر العربي مطالب ببناء منظور موضوعي نقدي لخصم حقيقي حاضر في الحياة العربية سواء على المستوى الاستراتيجي أو تفاصيل الحياة اليومية بمختلف أبعادها السياسية والثقافية والدينية أيضا. وفي تقديري فإن محاولة المسيري جهد متقدم ونوعي في سياق بناء منظور فكري عربي تجاه الصهيونية وإسرائيل.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  تصنيف محمد ابو رمان   جريدة الغد