لم تكن الرقة في النصف الأول من القرن الماضي، أكثر من قرية متواضعة في حجمها، ونوعِ الحياة فيها، تلك الحياة القائمة في مجملها على روح البداوة، ممزوجة بروح أخرى استقرت في جسد من الخرافة، حرّكت الناسَ ووجهتهُم في حياتهم. ومن داخل السور، وعلى ضفاف فرات عذب مستساغ نشأ العجيلي موهوباً يكتب أثرَه وأثرَ مدينتهِ، المنسية برغم خيرها العميم، وبرغم دفق مياهها العذبة، شأنُها شأنُ مدنِ الأقاليم في العالم كله، غير أن هذه المدن النائية ما تلبث أن تفاجئ العالمَ بإمكانيات وطاقات لا تقدمُ مثلهَا مدنُ العواصمِ، ولعل السببَ في هذا يعود إلى الإحساس الطاغي لدى أبناء المدن الصغيرة بالحاجة إلى قولٍ ذي قيمة يبقى على مر الدهر.
إذاً في الرقة التي على كتف الفرات، ولد العجيلي ونشأ (( بلدة صغيرة، أو قرية كبيرة على شاطئ الفرات بين حلب ودير الزور. سكانها في أيام مولدي كانوا يتألفون من بضع أسر عربية أو مستعربة نزحت إليها من بلاد مختلفة ( من الموصل، من الرها أو من أورفا في تركيا، من العشارة بالقرب من دير الزور) وإلى هذا كله يشير الدكتور عبد السلام العجيلي في كتابه أشياء شخصية. وفي هذه المدينة، أعني الرقة، التي كانت آنذاك تنام في وقت مبكر من ليلها، الذي طالما غنّاه موال شجي يبعثر الذاكرة ويجعلها أشتاتاً متفرقة ما تلبث أن تعودَ إلى الالتئام لتستمع عند مواقدِ الشتاءِ إلى حكايات عن الجن. كذلك وفي ليال السمر الصيفية، وفي الهدأة حيث أرواحُ الملائكة تسبح في الفضاء تغني للرقة الناعسة في أول ليلها الهادئ، أغنيةً معبأةً برحيق القصص من تاريخٍ للمدينة يعود أدراجَه إلى أيام الرشيد كنقطة استهداء وكذلك كنقطة انعطاف نحو بداية حقيقية للمدينة التي أُهِملت لاحقاً. وتتحول الحكاياتُ الشعبيةُ وقصصُ ألف ليلة وليلة على ألسنة الرواةِ من أبنائها إلى وقود يغذي نار الشتاء، ويلهب المواقد بالحنين إلى المزيد، ويبعث صيفاً رقيقَ النسمات، فتحلو الأمسياتُ المسكونةُ بالقشعريرة والمخطوفةُ الروح.
كذلك وفي هذه المدينة نشأت حلقات الذكر وتعددت منشدةً بعضَ نقاطِ السيرةِ العطرة، ولأنه لابد من التوشية فقد اتجهت هذه الحلقات إلى تزيين نهجِها ببعض الخارجِ على المألوف من الإتيان بحركات لا تخضع بحال من الأحوال للعقل وقوانينه، وإلى هذا يشير العجيلي في كتابه "اشهد يا طبيب".
ولم يخفت وهج هذه الروح المشتاقة دائماً إلى المزيد من نفح الخيال، فالنفس كما الروح تحن إلى ما يلهيها وينسيها الصخبَ اليومي، وقسوةَ الحياةِ في باديةٍ سجّلت أرضُها على مرِ التاريخِ العربي والإسلامي، أحداثاً هامةً ومفصلية.
من حياة هذه المدينة استمد العجيلي كثيراً من أدبه، وكتب عشراتِ القصص مستوحياً روحهَا من طبيعة الناس ومن أفكارهم ما يمكن أن نمثّل عليه بقصص من مثل النهر سلطان وكفن حمود، بل أملك أن أقول إن قصصاً من مثل رائعته قناديل إشبيلية يمكن للدارس أن يجد فيها أثراً رقيّاً. وعندما سئل العجيلي ذات مرة بنبرة استغراب عن أشجار الرمان الواردة في بعض قصصه، أجاب بأن هذه الأشجار ما هي إلا تلك التي كان يراها في بيت أهله. وإذا ما قيل عنه بأنه مؤسس فن الحكاية وخير من كتبها، فلأنه استطاع أن يصوغ مدينتَه هذه بجنّها وإنسِها ونهرها وعجاجها، وأيضاً بشيحها وقيصومها وشجر الغَرَب فيها. هذا كله دفع بالصديق الدكتور الناقد نضال الصالح إلى وصف ولعه بالحكاية (( بأسلوبيته المميزة التي تستعيد للحكاية سلطتها الآسرة في الوعي الجمعي، وتعيد إنتاجهَا وفقَ منظومةٍ سردية تمكّن من القول باطمئنان إن هذا الأدبَ لا يخص سوى العجيلي.))
ولعل هذه الأجواءَ الساحرة التي امتازت بها قصصُهُ على وجه التحديد، والغرائبية التي امتلأت بها جنباتُها هي من دفعت كثيراً من النقاد إلى وصفه بالغيبي إن صح التعبير أستحضر منهم الناقد جورج طرابيشي الذي وصف أدب العجيلي بأنه أدب يصدر عن الرؤيا بمعناها الغيبي من دون أن ينسى الذهاب إلى القول " ولكننا لن نستطيع مع ذلك أن ننكر أن العجيلي قد خلق أجواء ساحرة، متفردة أخاذة، وأننا قد أُخذنا بها بالرغم من احتجاج العقل فينا" ويقول عنه أيضاً " ويفوق الشاعر والروائي والقاص ذكاء وعمقاً وفناً". 000
ومبعث هذا التفرد الأخاذ الذي ذهب إليه طرابيشي هو أجواء هذه المدينة التي ما تزال تنوس إلى اليوم بين قصص الجن وحكايات الجدات عن السعلاة وغيرها.
وفي حوار لي معه نُشر في مجلة الكويت أشرت له في أحد أسئلتي إلى ملاحظة الناقد طرابيشي، فكان له رأيٌ مغايرٌ بالقول بأن بعض ما صدر عنه من أدب إنما برأيه سببه عجز العلم إلى يومنا هذا عن تفسير كثير من الظواهر المعيشة.
وتميّزَ العجيلي فيما تميّز بقدرته على قراءة مستقبل كثير من الأحداث، وربما استمد هذه الخاصية من تعدد مواهبه وتسنّمه عدداً من المناصب السياسية. وفي الحوار ذاته المشار إليه سألته عن " أيامي في جزيرة شاور " القصة النبوءة. فشاور المتخيلة، بسكانها الخمسة آلاف وتعدادها البالغ عشرين ألفاً من الدخلاء، بحزبيها التقدمي والمحافظ، شاور هذه تدب اليومَ روحُها. فـ " دحمان " بتقدميته قدّمَ وما يزال أكثر من شاور.
فأجابني العجيلي: تعليقي يتلخص في كلمة كتب بها إلي الناقد المصري المأسوف عليه أحمد محمد عطية، من بلد ألجأته الظروف إلى العمل فيه، وصفات هذا البلد قريبة من الصفات التي رسمتها أنا لجزيرة شاور المتخيلة. كان المرحوم أحمد محمد عطية قد انتقد هذه القصة بشدة قائلاً إني في مهاجمتي لدحمان والزمرة المسيطرة على الجزيرة معه أهاجم التقدمية. الصحيح أن القصة لم تكن تهاجم التقدميةَ ذاتها بل كانت تحمل على المتاجرين بالتقدمية، أولئك الذين يدّعونها بأفواههم ويخالفونَها أو يحاربونَها بأفعالهم، ويسوقون بذلك الشعب إلى المذلة والوطن إلى الضياع. كل هذا لم ينتبه إليه أحمد محمد عطية، أو لم يدركه، إلا حين عمل في البلد الذي قلت إنه يشبه جزيرة شاور في صفاته. من ذلك البلد جاءتني منه عندئذ بطاقة يقول لي فيها بالحرف الواحد: " كل ما كتبته أنت عن جزيرة شاور يُطبّق هنا على التمام! ".
كتبت قصة " أيامي في جزيرة شاور " في عام 1969 ، وأرسل إلي أحمد محمد عطية كلمته هذه بعد ذلك التاريخ بنحو من خمسة عشر عاماً. وكلي أسف وتألم من أن ما هاجمته في تلك القصة وما رآه بعينه أحمد محمد عطية لا يزالُ مطبقاً في أكثر من شاور واحدة من جزر الوطن العربي ومن مدنه ومن دوله.
ولقد عُرِف العجيليُ على مدى عمره بنزاهته ونقاء لسانه، فلم يذهب يوماً وهو وزير إلى اتهام مواطنيه بالكتابة مثلاً لصالح صحف عدوة كما فعل وزير لاحق عليه بعد عقود وسألته في حوار آخر بعد تخليه عن العمل وزيراً في وزارة الإعلام عن " راديو ترانزيستور" فُقِدَ من الوزارة، ذكر هذا في كتابه " ذكريات أيام السياسة " وذكر كيف أنه طولب بهذا الجهاز وهو شيء تافه فأجابني وبالحرف: لم أرو هذه الواقعةَ معتبراً إياها كارثة، بل رويتها كطرفة حين يسألني مدير الإذاعة والتلفزيون عن راديو ترانزيستور صغير بعد عامين من تركي الوزارة. أعتقد أن الدافع من وراء المطالبة بتلك الأداة الهزيلة، وأنا لم آخذها بالطبع بل وُجدتْ بعد ذلك في درج مكتب سكرتير الوزير، الدافع كان موجةَ حقد خضع لها بلدُنا بضعَ سنين، كان فيها التالون يصبون جامَ نقمتهِم على السالفين بكل طريقة. ففي الوقت الذي تلقيت فيه رسالةَ المطالبةِ بالترانزيستور روى لي أهلُ بلدتي أن مدير التربية الذي كان يسكن في حينا نُقِل إلى مثلِ وظيفتهِ في بلده فحمل معه أثاثَ مكتبِ مديريةِ التربية في أكثر من شاحنة مستولياً عليه، ولم يقل له أحد ما أحلى الكحل بعينك حينذاك !!
كما وعُرِف عنه تواضعه الشديد، ففي حوار ثالث لي معه نُشر في مجلة البيان الكويتية، سألته عن تفسيره لورود مقال له بعنوان "رحلة إلى جوف الأرض" بتمامه في رواية "أجملهن". وكان جوابه: ما ذكرته صحيح، لا أنكره ولا أعتذر عنه. ذكرياتي تظل أحدَ أجزاء كتاباتي القصصية، وفي بعض الأحيان أهم هذه الأجزاء. من هذه الذكريات ما استخدمها في كتابة مقالٍ أو إلقاء محاضرة، وحين أكتب عملاً قصصياً قد ألجأ إلى استيحاء بعضِ هذه الذكريات في بناء العمل القصصي. وصف مناجم الملح في " رحلة إلى جوف الأرض " هو نفسه في " أجملهن " ولكنه في المقال وصف جغرافي أما في الرواية فهو وصف لمكان جرى فيه الحدث. وقد كتبت أنا مقال " رحلة إلى جوف الأرض " في عام 1956 بينما كتبت " أجملهن " في عام 2001 . خمس وأربعون سنة بين كتابة العملين، وليس غيرُ الناقد المتتبع، ولا أقول القارئ، من يفطن إلى ما سميته أنت تناصاً ذاتياً. وليس كل ناقد مثلك أنت في تتبعك ونقدك، فكيف بالقارئ المبعد عن النقد؟
ويمكن لي بهدوء أن أسبغ على العجيلي مواصفاتٍ رقيةً ظل محافظاً عليها برغم أنه جاب العالم من دون أن يتخلّص منها، فظل وهو الأديبُ شيخَ العشيرة ولم ينقطع يوماً عن أداء واجبه الاجتماعي في مدينة تعلّقت بأستار من الموروث ربما لا نوافق على بعضه، فلم نعرفه انقطع عن مضافةِ أهله ولا قصّر في أداءِ واجبِ عزاء، وما امتنع عن أداء واجبه كطبيب في زيارة مرضاه في بيوتهِم من دون أن يمنعَه بردُ شتاءٍ أو قيظٌ حارقٌ في رقةٍ تلتهب صيفاً.
ولعلي أملك أن أختم شهادتي بالقول إن العجيلي سَنامُ مدينته والذي هيأت له موهبتُهُ وتواضعُه أن يرفع من شأنها في زمن نال الهبوطُ من بعضِ عواصمه، على أنني لن أنسى أن هذه المدينة لن تكونَ يوماً عاجزةً عن إنجاب أمثاله في القادمِ من الأيام.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع