لم يبق يوم في تقاويم العرب غير مكرس لذكرى احتلال أو أسر أو هزيمة أو يُتْم ، وكلما أزفت مناسبات كهذه تحسس الناس رؤوسهم ، بحيث لا يشعر أحد بأنه مؤهل للاحتفال بيوم اليتيم ، لانه يتيم ، وبيوم الاسير لأن الأمة بأسرها أسيرة.
لكن علينا ان نعيد النظر في مفاهيم الحرية واليُتم والأسر كي تتسع هذه المفردات لأكثر من ربع مليار انسان ، يشعرون بأنهم اسرى في عقر أوطانهم ودورهم ، وأيتام رغم انهم آباء وأجداد ، ويخطىء الآباء والامهات في فلسطين اذا ظنوا بأن أبناءهم وهم أكثر من عشرة آلاف داخل الزنازين وربما كانوا بمقياس آخر اكثر حرية من ملايين يحملون زنازينهم كالسلاحف على ظهورهم ويسعون في الارض ، واليُتْم ليس فقدان الأب والام ، انه احساس أعمّ من ذلك ، يشعر به الانسان اذا وجد نفسه ملقى في العراء ووحيدا كالرمح المغروز في رمال الصحراء ، واحيانا تنقلب المفاهيم والمعادلات كلها فيصبح الاسير في سجون الاعداء هو الحرّ والطليق في الشوارع لكن عقله محاصر بالجبس هو الاسير ، ليس فقط لان العرب حفظوا عن ظهر قلب وسيف ان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة ، بل لأن من يسجنه الاعداء يعترفون رغما عنهم بخطورة حريته ، وبأن بقاءه طليقا يهدد كل اطروحاتهم ويحرجهم حتى امام انفسهم ، وعندما اجتلت المانيا النازية فرنسا كتب سارتر ان فرنسا لم تكن حرة ذات يوم كما كانت في زمن الاحتلال ، لان مجرد كتابة اسمها على جدار كان يكلف الفرنسي حياته ، وقبل الاحتلال كان الناس قد ألفوا واعتادوا حريتهم حتى لم يعودوا يشعرون بها ، لأنها كالهواء الذي لا يشعر الانسان بضرورته الا في لحظات الاختناق ووقت غيابه.
ومن يقرأ ويشاهد ويسمع ما يكتبه العرب الجرحى في صميم الوجدان هذه الايام يشعر على الفور ان الأمة كلها أسيرة وانها ايضا يتيمة ، وأن من ينتظرون الخلاص هم واهمون ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وكم نشعر بالأسى ونحن نرقب أيامنا في التقاويم التي حجزت لكل ما هو مثير للشجن ، اذ نادرا ما يحتفل العرب بذكرى يوم انتصار جميل ، لهذا يعودون الى الماضي لعله يعوضهم قليلا عن كل ما فقدوا.. وحين كتب احد شعرائهم.. من يشتري تاريخ اجدادي بيوم حرّية ، لم يكن يعرض على التاريخ صفقة او مقايضة ، بقدر ما كان يذكر الأحفاد بأنهم أفقروا الماضي لفرط ما اقترضوا واستدانوا منه.
الاسرى الفلسطينيون لا يرددون في زنازينهم ما قاله ابو فراس الحمداني عن الحمامة التي ناحت بالقرب منه ، لان سماء فلسطين خلت من الحمائم بعد ان ملأت الفانتوم والأباتشي السماء بالدخان والسموم ، وهم ايضا لم يقولوا.. ان مت ظمآن فلا نزل القطر ، لأنهم ظمئوا لكي يشرب الآخرون ، وحين يستشهدون فمن اجل ان يعيش الآخرون ، ومن حقهم ان يلوحوا بالمناديل من زنازينهم - ان كانت لها نوافذ - لهؤلاء الأسرى الذين تعج بهم شوارع المدن والقرى من المحيط الى الخليج ، ولا أدري من هو الذي يشفق على الآخر الآن ، هل هو الأسير الحرّ في سجن العدو أم الرهينة الذي يتحرك داخل زنزانة بسعة قارة؟.
ان قدر السّجان هو ان يبقى حتى القيامة أسير خوفه وهلعه من ضحاياه ، اما قدر السّجين فهو ان يترجم الحرية من كلمة في قاموس الى نهار ساطع،،.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خيري منصور جريدة الدستور