الإنسان سياسي بالضرورة ، مثلما هو اجتماعي بالطبع ؛ فهو يعاني السياسة لحظيا ، وفي كل شأن ؛ فلا يستغني عن الموقف السياسي الذي يستند بدوره إلى الفهم السياسي .
ولكل منهما مقتضياته ؛ فالفهم السياسي المسبوق بالتحليل يستلزم التجردَ ، وفهمَ الأحداث والمستجدات السياسية ، كما هي في الواقع ، لا كما نحب أن تكون ، ولا كما يحب غيرُنا أن تكون . وعند هذا الموطن قد تزوغ الأبصار ، وتشوّش الرؤى ؛ فيضل المتابع ، أو يُضلّل ؛ وذلك أن المتابع العادي قد يقع ضحية المعلومات السياسية المتضاربة ، كما أنه قد يعاني أحيانا فجوات وتقطّعا في سلسلة المعلومات ؛ فتفقد بعض حلقاتها ، وقد يواجه تعتيما متعمدا في جوانب من المشهد الذي يحاول استجماعه ، وثالثة الأثافي تلك المعلومات المكذوبة المضللة التي تطلقها وكالات الأنباء ، أو بعض وسائل الإعلام غير البريئة من التوجهات السياسية ، أو الانحياز المبطن بالمهنية المزعومة ، ناهيك عن كذب السياسيين ، فالكذب في الساسة الغربيين سلاح ملازم ، ودرع لصيق ، ويرصد لنا الأستاذ محمد عبد الهادي خبير الشئون العربية والسياسة الخارجية المصرية ومساعد رئيس تحرير "الأهرام" ورئيس قسم الشئون الدبلوماسية، في أخر كتبه "الدبلوماسية في زمن الهيمنة الأمريكية " الجديد في ظاهرة الكذب العريقة في السياسة الدولية والأمريكية منها على وجه الخصوص ، فهو يلاحظ أن
" استخدامات الكذب – مثلاً – في السياسة كانت هي المراوغة والتهرب من الاستحقاقات ، أما الآن فقد بات الكذب أداة أو مظلة وسياسة لشن عدوان واحتلال بلدان، مثلما في حالة العراق " ويتتبع الكاتب تاريخ الكذب في مؤسسة الرئاسة الأمريكية ، ويذكر نكتة ظهرت في عهد الرئيس الديموقراطي ليندون جونسون تقول " كيف تعرف أن جونسون يكذب؟" الإجابة : " عندما يحرك شفتيه بالكلام" ! ولعل هذا من الأسباب التي جعلت قسما من المسلمين ينفرون من السياسة ، والتفكير فيها ؛ فهي في نظرهم قائمة على الدجل والتضليل والخداع ؛ فترفعوا عنها ، وبرّؤوا الإسلام منها ، لكن هذا إن صح فإنما يصح على السياسة بالمفهوم الغربي القائم على تحقيق المصالح المادية الصرفة بقطع النظر عن أية اعتبارات إنسانية ، بخلاف السياسة في الإسلام المحكومة كغيرها من المفاهيم بضوابط الإسلام وأحكامه .
ومن مشكلات التحليل ، أو مُرْبكات المحلل تلك التغيرات التي تعتري مواقف الأطراف الصانعة للحدث ، أو القائمة على تنفيذه ؛ نتيجة مساومات ، أو صفقات غير معلنة بين أطراف الصراع ؛ ونتيجة لما سبق وغيره يتعرض المحلل السياسي إلى الخطأ ، وتبقى رؤيته تقريبية وحذرة .
وبالرغم من ذلك فلا بد مما ليس منه بد ، إذ لا غنى عن رؤية سياسية خاصة ، وكما أن الناس في الفقه ؛ بين مجتهد ومقلد ، كذلك هم في السياسة ؛ إذ ليس في مقدور الناس جميعا أن يكونوا أصحاب فهم سياسي ذاتي ، أما المحلل فيمكنه التعامل مع المشاكل السابق ذكرها بوسائل منها : تمحيص الخبر والتثبت منه ، وثمة أخبار عصيّة على التلاعب ، وهي المتعلقة بالأحداث الخارجية ؛ فالتلاعب فيها يعرّض فاعله إلى التشكيك في صدقيته ، إلا أن تمارس جهة ما حجبا عن مقدار من الأحداث ، وتمنع التغطية الإعلامية على وسائل معينة ، كما تفعل أمريكا في العراق ، وهذا ينقص ، ولا يحجب الرؤية بالكلية . هذا ويمكن للمحلل أن يجري هذا التمحيص للخبر بمقارنته بأمثاله في وسائل إعلام متعددة ؛ داخليا وخارجيا ، ومنحازة لهذا ، أو منحازة لذاك .
كما أن المتابع الواعي الجاد لا يمكن أن يسلّم بالأخذ من وسائل الإعلام فقط ، بل إنه يحاول قدر الطاقة والوسع أن يستقي معلوماته من المصادر المباشرة من جهات موثوقة تُعايش الحدث ، كلما أمكن ذلك .
وبعد حصوله على معلومة ممحصة إلى حد يمكّن من الاعتماد عليها ، تأتي مرحلة أدق وأعقد ، وهي توظيف تلك المعلومات ، وإحسان ربطها في تكوين صورة قريبة من الواقع . وهنا لابد من الاعتماد على قواعد معينة ، وهي آراء سياسية تتسم بقدر من الثبات ، كمعرفة توجهات الدول الفاعلة التي تفتعل الأزمات أو تديرها ؛ ما الذي تريده ؟ وما استراتيجيتها ؟ وما أولوياتها ؟ وما خططها ؟ وما أدواتها ؟ وذلك حتى يكون له مرجعية يُرجع المعلومات والأخبار السياسية إليها ، هذا والعلاقة بين المعلومات والقواعد تفاعلية تبادلية ؛ غير أن تلك القواعد ، وقد قُعّدت بعد بحث معمق ، ومتابعات مطولة ، لا بد أن تحظى بتقدير أعلى عند المحلل من المعلومات اليومية ، وبالرغم من ذلك قد يلحظ المتابع الواعي انحرافا في اتجاه الأحداث يحوجه إلى إعادة النظر في بعض تلك القواعد .
وفي ضوء ما سبق ، ننظر إلى الوضع العراقي ؛ فلا بد من معرفة الدافع الحقيقي وراء الغزو الأمريكي للعراق ، وما أطماعها فيه ؟ ويمكن القول إنه الرغبة في الهيمنة الفعلية المباشرة على العراق بوصفه مصدرا مهما للنفط ، وموقعا استراتيجيا في منطقة الخليج البالغة الحيوية لأمريكا ، وبوصفه كذلك كان مقرا لحاضرة الخلافة ؛ بغداد ، بما يعنيه ذلك من ضربة معنوية ، تحاول بها واشنطن إحباط الأمة ، وتكريس الهزيمة في نفوس أبنائها .
ومما يؤكد هدف الهيمنة الذي تريده أمريكا ما صرح به وزير الدفاع الأمريكي ( غيتس ) مؤخرا أن القوات والقواعد الأمريكية ستبقى في العراق ، كما الوجود الأمريكي في كوريا الجنوبية ، وهذا يكشف عن ملمح في السياسة الراهنة ، وهي الوضوح والكشف عن الأهداف ، أو الاستراتيجيات الحقيقية ، كما كشف (بوش ) الابن عن طبيعة الحرب على العراق بأنها صليبية ؛ إذ أعلن عن ذلك غير مرة ، ولكن التزاحم في الأحداث والتسارع في وتيرتها ، مع السيل المتدفق من الأخبار والمعلومات قد يضيّع تلك المعلومات الثمينة .
فلا بد أن نفهم ما يجري في العراق من أحداث مؤلمة في ضوء الأهداف السابقة التي تمثل البعد المادي الاقتصادي ، والبعد الاستراتيجي والحضاري . ومن الدلائل على البعد الحضاري الاستهداف الواضح للجامعات والعلماء والمكتبات والمتاحف ... وحتى المساجد ودور العبادة ، ويؤكد ذلك أيضا النشر المتعمد لإفرازات الحضارة الغربية ببغداد والعراق ؛ وذلك لمحو شخصية الأمة ، وطمس هُويتها "حيث تقود واشنطن مخططاً جهنميًا يهدف إلى نشر الرذيلة والدعارة والأقراص المخدرة والخمور في جنبات المدن العراقية ، لا سيما المدن السنية في وسط العراق والتي تشكل حجر الزاوية في المقاومة. وقد أوضحت مجلة نيوزويك الأمريكية هذا المخطط وأعلنت عنه وعن تورط جهات مخابراتية في دعم هذا المخطط، ومنها بعض الوحدات الخاصة في جهاز الموساد الإسرائيلي التي تحاول جاهدة جذب أنظار العراقيين بالجنس والأفلام الإباحية ، حيث يرون أن نشر هذه المواد الإباحية يقدم خدمة لواشنطن وتل أبيب للسيطرة التامة على العراق والقضاء على مظاهر المقاومة به ، أو أي جهات معادية للمخططات الأمريكية لأمركة بلاد الرافدين وتحويلها إلى دولة علمانية لا مكان فيها للقيم الدينية والأخلاقية " {عن مجلة الفرقان}
هذه بعض ملامح الصورة ؛ فما الموقف ؟
فيما سبق تناولت الجانب المتعلق بفهم الواقع ، ولا بد فيه من التجرد ؛حتى يصح بناء الموقف عليه . أما الموقف فهو يختلف من إنسان إلى آخر ؛ تبعا لاختلاف منطلقاته الفكرية وزاوية النظر ؛ فالمسلم يرى العراق بلدا إسلاميا محتلا ، ويرى أمريكا دولة معتدية ظالمة طامعة ، وهذه الزاوية في النظر ، أعني زاوية العقيدة الإسلامية ، مهمة جدا ؛ إذ دونها يغدو المسلم خلوا من أي موقف ؛ فيستلب بالضرورة لمواقف غيره . ومما يدلل على ضرورة مراعاة المسلم للعقيدة الإسلامية ومصالح الأمة في تشكيل الموقف السياسي ، ما أورده المفسرون ، ومنهم الطبري ؛ إذ قال عند تفسير قوله تعالى : "{ الم (1) غُلِبَتْ الرُّوم ... (2)} [سورة الروم] عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَغْلِب الرُّوم أَهْل الْكِتَاب , وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَغْلِب أَهْل فَارِس , لِأَنَّهُمْ أَهْل الْأَوْثَان , قَالَ : فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِأَبِي بَكْر , فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْر لِلنَّبِيِّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَمَا إِنَّهُمْ سَيُهْزَمُونَ " , قَالَ : فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْر لِلْمُشْرِكِينَ , قَالَ : فَقَالُوا : أَفَنَجْعَل بَيْننَا وَبَيْنكُمْ أَجَلًا , فَإِنْ غَلَبُوا كَانَ لَك كَذَا وَكَذَا , وَإِنْ غَلَبْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا ; قَالَ : فَجَعَلُوا بَيْنهمْ وَبَيْنه أَجَلًا خَمْس سِنِينَ , قَالَ : فَمَضَتْ فَلَمْ يَغْلِبُوا ; قَالَ : فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْر لِلنَّبِيِّ صَلِّي اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ لَهُ : " أَفَلَا جَعَلْته دُون الْعَشْر " , قَالَ سَعِيد : وَالْبِضْع مَا دُون الْعَشْر , قَالَ : فَغُلِبَ الرُّوم , ثُمَّ غَلَبَتْ ; قَالَ : فَذَلِكَ قَوْله : { الم غُلِبَتْ الرُّوم فِي أَدْنَى الْأَرْض وَهُمْ مِنْ بَعْد غَلَبهمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْع سِنِينَ } ...{ لِلَّهِ الْأَمْر مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْد وَيَوْمئِذٍ يَفْرَح الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه } قَالَ سُفْيَان : فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ غَلَبُوا يَوْم بَدْر . فهذا يدل على اهتمام المسلمين بما كان يجري حولهم من أحداث دولية ، وكذلك على انطلاقهم في نظرتهم إليها من منطلق العقيدة ومصلحة الدين والأمة .
وإذا كان التحليل السياسي لا يطاوع الجميع ؛ فإن الموقف السياسي لا يعيي أحدا ؛ لوضوح منطلقاته وثباتها ؛ فالمسلم ينظر إلى العالم وأحداثه من زاوية دينه ومصالح أمته ، ولا ينظر من زاوية قطرية فقط ، أو قومية ، أو غير ذلك ، ما يوسع أفقه ، ويجعله قادرا على الاستشراف والإحاطة ، عصيّا على التضليل والتسخير .
المراجع
pulpit.alwatanvoice.com
التصانيف
أدب مجتمع الآداب