خيبة أمل كبيرة وشعور بانسداد الأفق يتبدى من متابعة تطورات المشهد السياسي العربي اليوم. فنذر الحرب الأهلية تسيطر على توقعات المحللين للشأن العراقي، في ظل حالة من العنف الأعمى المتبادل الذي يذهب ضحيته المدنيون والأبرياء. وهزت الصدامات المسلحة بين حماس وفتح الرأي العام العربي، ولا يبدو الحال مختلفا في كثير من الدول العربية الأخرى؛ فثورة الأرز في لبنان انتهت إلى حسابات طائفية وعرقية، والبنية السياسية والاجتماعية العربية الهشة مرشحة لإفراز صراعات ومشاكل طائفية وعرقية مشابهة، بينما ينتشر تيار عدمي ظلامي بين الشباب العربي يتبنى أيدلوجيا دينية تقوم على تفسيرات عدمية للإسلام ورسالته الأخلاقية.
ربما يرى البعض المخاض الحالي كمقدمة طبيعية للتحولات السياسية، وأنه مرحلة ضرورية للانتقال من نظام سياسي لآخر، لكن المؤشرات والملاحظات الحالية توحي أن هذا التحول هو نحو الأسوأ وليس الأفضل، وأنه يدفع باتجاه أزمة تاريخية، تضع الحالة العربية برمتها على المحك، وتطرح تساؤلات حول أهلية الواقع السياسي العربي للمضي قدما في مشروع الإصلاح السياسي.
بالتأكيد الديمقراطية ليست مجرد لحظة، والإصلاح عملية تاريخية تراكمية، تتضمن صفقات سياسية وسجالات فكرية وثقافية، تجتاز مراحل مختلفة، وتحقق كل منها تقدما في جانب معين وصولا إلى تطوير الحياة السياسية بأسرها. لكن مازال في العالم العربي الكثير من العوائق والمشكلات التي تقف في طريق الإصلاح المطلوب، وتفسر إلى درجة كبيرة عدم تحقيق تقدم ملموس وفاعل إلى الآن. وأبرز هذه المعوقات غياب المطالبة الداخلية الفاعلة، وضعف القوى السياسية المحلية التي تضع الإصلاح السياسي على رأس أجندتها السياسية، وتحشد الناس نحو الديمقراطية والمفاهيم المدنية في الحكم. فالتيار المدني الديمقراطي العربي ضعيف وغير فاعل على الساحة الاجتماعية، أما التيار الإسلامي -النافذ على الساحة الشعبية العربية في الكثير من الدول- فلم يحسم معركته الفكرية مع مفاهيم المواطنة والحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، ولم يعلن بعد، بشكل واضح، فيما إذا كانت مطالبه بالإصلاح السياسي تتمثل من خلال دولة ديمقراطية مدنية حديثة، أم نموذج آخر في الحكم؟
وتثير إشكالية ضعف التيار المدني الديمقراطي قضايا بنيوية مرتبطة بالثقافة العربية ودورها السلبي في الإصلاح المطلوب. إذ لعبت الثقافة الموروثة دورا كبيرا في صياغة الفرد، وتهيئته نفسيا وماديا وأخلاقيا للقبول والرضى والطاعة، إلى جانب التحلي بالصبر! وهي كلها شروط ضرورية لخلق البيئة المثالية لطغيان الحاكم واستبداده. وأنتجت ثقافة الخوف والخضوع المتوارثة إنسانا انفصاميا؛ فمن ناحية يحمل روح الجماعة، ويصبح جزءا منها عندما تكون في حالة انصياع واستسلام، ومن ناحية أخرى يحمل روح الفردية، بمعنى "الخلاص الفردي" وعدم التورط في لحظات المحن والشدائد والتحديات، بينما تغيب الروح الفردية فيما يتعلق بالذاتية والاستقلالية والمسؤولية الشخصية.
وإذا كانت هذه الثقافة موروثة ومتناقلة عبر الأجيال وتشكل بنية شعورية وحسية ثابتة داخل الفرد العربي، فإن ما يعزز توريث وتناقل هذه الثقافة هو دور مؤسسات التنشئة، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة، فأنماط التنشئة التقليدية في العائلة العربية كانت وما تزال إلى حد بعيد تشدد على العقاب الجسدي والترهيب والترغيب أكثر مما تشدد على الإقناع، وتنشأ عن كل ذلك نزعة أنانية فردية، وتسلم الأسرة الفرد إلى المدرسة بحيث تشترك المؤسستان في البنية التراتيبية الصارمة في التنشئة والتعليم؛ فيلغى بذلك مفهوم الجدل والتعاون في حياة الفرد. مما يخلق الطراز الذليل المستعبد من الناس بقدر ما يخلق الطراز المستبد المتغطرس، ويسود الشعور بأن العلاقة الوحيدة الممكنة بين مخلوقين من البشر هي علاقة التبعية والطاعة.
ويرصد الباحث صالح السنوسي في كتابه" المأزق العربي" (مركز الدراسات السياسية بالأهرام) العديد من الأمثال الشعبية العربية التي تدل على النزوع الثقافي السلبي في القضايا السياسية ومن ذلك قول الناس: "فخار يكسر بعضه"، "اللي يأخذ أمي اسمه عمي"، "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس"، "امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستر". وتكشف هذه الأمثال عن رصيد ثقافي كبير يعمل باتجاه معاكس للإصلاح وهو ناتج عن تعزيز الخبرة التاريخية لسيادة الحكم الاستبدادي الذي خلق ما يُسمّى بالثقافة السياسية الرعوية، التي ينشأ في بوتقتها فرد سلبيّ في مواقفه وسلوكه تجاه النظام السياسي، وذلك لإحساس الفرد بعدم قدرته على التأثير على النظام وتنظر بعين الشك اتجاه المعارضة.
"المسألة الثقافية" -إذن- تفسر عجز الشعوب العربية إلى الآن عن تخطي اللحظة السياسية الراهنة باتجاه حياة مدنية سياسية تمثل الطموح المشروع في الإصلاح والنهضة، وتبين حالة التردد بين النظم القطرية القمعية الحالية وبين بدائل الفوضى والعنف والاستقطابات الداخلية التي تتبدى في الظروف الحالية، وهذا يدفع بالمثقفين والعلماء والفقهاء إلى إيلاء اهتمام أكبر بالمسألة الثقافية وتقديم خطاب اجتماعي للناس يقوم على إعادة إنتاج الثقافة الشعبية والسياسية في موازاة الخطاب السياسي الضاغط على السلطة.
ربما لا أكون مبالغا إذا اعتبرت أن المسألة الثقافية اليوم هي الأساس الذي يجب أن ننطلق منه، فإعادة تأهيل الإنسان العربي ثقافيا ليكون قادرا على المضي قدما في مشروع الإصلاح شرط ضروري لبناء المجال السياسي العربي المدني، ويدخل في ذلك تعريف دور الدين ووظيفته الاجتماعية -لما له من أثر واضح وملموس على مفردات الحياة الاجتماعية والسياسية-، والعمل على بناء جماعة وطنية تتبنى ثقافة مدنية تتجاوز الانتماءات الطائفية والعرقية وثقافة الخوف والسلبية تجاه الحياة السياسية. ونقد البنية الثقافية والشعورية السلبية التي تمثل أهم معوقات الإصلاح. وهذه المهمات كلها يتحملها النخبة المثقة من مفكرين وعلماء وكتاب تبدو أولوية عملهم اليوم في المجال الاجتماعي قبل المجال السياسي، فالسلطة -كما يقول مالك بن نبي- هي انعكاس لحالة المجتمع ومدى حيويته وصحته.
دون توافر الشرط الثقافي في الإصلاح السياسي ستنقلب طموحات الإصلاح إلى حالة من الفوضى والعنف نتيجة غياب الثقافة المدنية كما هو حاصل في حالات عديدة، أو ستتمكن كثير من النظم العربية من التحايل على مطالب الإصلاح باختراع "مسرح للتحول الديمقراطي" يقوم على مشاهد إبداعية متعددة "إصلاحات تجميلية" أو خطابات رسمية عن حقوق الإنسان والحكم الصالح ويبقى الإصلاح مؤجلا إلى حين!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة تصنيف محمد ابو رمان جريدة الغد