حزينة أنتِ إذن يا "تاميلا".
حزن يعتصر عينيكِ اللوزيتين ويغرقهما بهالة حمراء من لون دم الغروب.
ها أنتِ تشيحين بوجهك عنهم, اشاحة لا تريد الاساءة بقدر ما تريد أن تعلن طقس الحزن, وكان حزنك باديا للجميع, فانخفضت همهماتهم فيما دخلتِ عليهم وهم جالسون في كافيتريا الشركة. لقد كفوا, ولو إلى حين, عن تبادل الحديث بعفوية وارتياح.. كفوا حتى عن اظهار ابتهاجهم, لأن من حقكِ عليهم أن يلتزموا بآداب الحزن, فليس ثمة أروع من مشاركة الآخرين أحزانهم ومصائبهم.. كلمة طيبة صادقة تطفيء بعضا من لوعة الحزن. وها أنت تخرجين من الكافتريا بعدما ملأت كوبا بلاستيكيا من مياه جهاز التبريد واحتسيته على دفعات بوقار يتناسب مع مصابك. ولم تطلبي, بمرحك المعهود, من عاملة الكافتريا السمراء قهوتك "الكابتشينو" ككل صباح.
همسَتْ أحداهنَّ لصاحبتها التي لم تكنْ تعرف:
"دهسته سيارة أمس.. مات في المستشفى.."
وفور خروجكِ يا تاميلا من الكافتريا وقفتْ "ايمي", موظفة الاستقبال, وسطهم وقالتْ بصوت خفيض:
"أقترح أن نشترى بطاقة تعزية لتاميلا ونوقعها جميعنا.."
كانت روح المشاركة والتضامن عالية بين الجميع الا من "طلال" الذي رفض مستنكرا توقيع البطاقة. استهجنتُ ذلك يا تاميلا ولم احدثكِ عن ردة فعله تلك كي لا تتخذي منه موقفا. وأنا إلى الآن يا تاميلا استهجن تصرف طلال, فهو كما عهدناه متحضرا عارفا بالأصول. البعض قال بحرص شديد إن موقفه ربما يكون نابعا من عاداته العربية والإسلامية. قال "أندريه" إن المسلمين, ربما, لا يعزون على طريقتنا, كما أنهم لا يحتفلون بأعياد ميلادهم.. والغريب أن طلال لم يرفض فقط كتابة كلمة لكِ على البطاقة بل بدا منزعجا من الفكرة نفسها, رافضا لها.. بدا ذلك في ملامح وجهه التي لم تستطع اخفاءَ قدر كبير من الأسى الذي ارتسم في أديم وجهه العربي الذي لا تراه الا مستنكرا مندهشا.
وكان بإمكان طلال, من مكتبه, أن يراكِ ويواسيكِ يا تاميلا. أن يرى ما فعلته الدموع بعينيك الخضراوين الجميلتين اللتين خلف البكاء حولهما تجاعيد دقيقة. والأفظع من هذا أنه لم يحاول حتى أن يلفت انتباهك وكأنه غير راغب في الحديث عن مصابك. فعلا هو غير راغب يا تاميلا.. بل هو متألم ومندهش من فكرة بطاقة التعزية نفسها.. متألم من الفكرة وليس منكِ وكأنه يرى أن الفكرة لا مبررَ لها, لهذا تشاغلَ منكبا على مكتبه. كان منشغلا بالتفكير وكأنه يعاين شئيا لا يُصدق.. دائما ترينه حزينا مهموما منكبا على قراءة الصحف, وقد بدا في الآونة الأخيرة يسخر من مواقف كتابها وتحاملهم على ما يحدث في البلاد الكثيرة التي أتى من إحداها.. بالمناسبة, أنا لا أذكر يا تاميلا إن كان طلال فلسطينيا, أم عراقيا, أم افغانستانيا, أم سوريا.. فكل هذه البلاد تبدو لي وكأنها نسخة واحدة عن بعضها. أوتسأليني أين هذه البلاد؟ أنا أيضا لم أكنْ اسمع عنها ولا أعرف موقعها على الخريطة.. ولكننا الآن أصبحنا نعرفها ونجهل موقعها الجغرافي.. وعرفنا أنها كلها قريبة من بعضها, نائية عنا, هناك في البلاد البعيدة ما وراء البحار.

لأعودَ إليكِ يا تاميلا.. أعود إليك والبطاقة في يدي قد امتلأت بالكلمات المواسية, التي جهدت ما بوسعها أن تبل أوار حزنك الذي داهمك منذ أمس.. وهل ثمة أروع من المشاركة ولاسيما في مواقف الحزن عندما يفقد الانسان عزيزا عليه.. تصوري لو أن الإنسان يشعر بغياب الآخرين من حوله ويعيش حزنه وحدة دون مشاركة الآخرين تصوري لو كان الإنسان بهذه القسوة والغياب والتجاهل لكنَّ ذلك لا يمكن أن يحصل بيننا, وأقل ما يمكن أن نقدمه هو تلك البطاقة المتواضعة التي سنقدمها لك بعد ظهر اليوم - قبل الإنصراف. لعلَّ نفسك حينها تكون قد هدأت وتتيح لنا فرصة نخفف خلالها عن مصابك. أما طلال.. وها أنا أعود إليه لأنني أعرف أن قلبه طيب وأنكِ تقدرينه كصديق فإنني سأحاول اقناعه أن يكتب كلمة على المساحة المتبقية في البطاقة على الرغم من يقيني أن اقناعه ليس بالأمر اليسير. وإن استطعت فسأكون بذلك قد فعلت خيرا.. وكما يقولون إفعل خيرا وارمه في البحر.

أقترِبُ من طلال.. يشعرُ من اقترابي إليه, وكأنه عرف سبب قدومي فبقي في مكانه يتصفح أوراقا ولم يلتفت.
ناديته بصوت خفيض: "طلال.."
فأجابني بصوت مماثل, لكنه منهك:
"ماذا تريدين؟"
"سنقدم البطاقة اليوم بعد الظهر لتاميلا, ولم يبقَ الا أنتَ لم تكتب كلمة عزاء"
وما أن انتهيت من كلامي حتى التفت إليَّ لأرى في عينيه شعلة من نار. اخافتني عيناه يا تاميلا, وتمنيت لو أنني لم آته وما يضيرنا أن تكون البطاقة دون كلماته.. وها أنا ازداد يقينا أنني سأقدم البطاقة لك دون كلماته عندما قال في حدة:
"وهل من الضروري أن أكتب"
ولا اخفيك يا تاميلا أنني على الرغم من حدة كلامه تلمست أملا من أن طلال سيلين. لا أدري من أين جاءني هذا اليقين.. ربما حسن معرفتي به خلال الفترة الطويلة التي قضيناها معا في الشركة. فأجبته وكلي أمل الا يخيب أملي:
"إنه عزاء.. وهل ثمة أروع من نفس تعزي نفسا مصابة.."
"يا للعجب.. وهل منكم من عزاني بمصابي في وطني خلال السنوات الثلاثة التي عملت بها في الشركة؟.. كل يوم يموت العشرات من الاطفال والنساء وتهدم البيوت وتقلع الاشجار.. وها هي "جنين" لم تبتردْ بعد دماء موتاها.. هل منكم من قال لي كلمة عزاء؟ هل منكم من نظر إليَّ نظرة تشاركني حزني وتستنكر المجازر الجماعية والإبادة المتعمدة؟ الا تقرأون يا ناس الصحف كل يوم.. الا تتسمرون أمام شاشات التلفزيون, ألم ترون إذن ما يحصل في بلادي؟ صحيح أن أعلامكم لايقدم الحقيقة كلها, ولكن يبقى دائما مساحة يظهرُ من خلالها بعضا من الحقيقة. اليوم بالذات لم تستطع الصحف أن تخفي جلل ما حصل.. اقرأي صحف الصباح.. إنها هناك في الكافيتريا. وتريديني أن اعزي تاميلا"
ولكن بغتة, وبحركة يائسة ساخرة غير متوقعة خطف البطاقة من يدي. خشيت أن يمزقها, ولكن يا لعجبي, أمسك بالقلم بقرف واستياء واضح وقال لي:
"تريديني أن أكتب.. سأكتب.. أهذا ما يرضيكم.."
وضع طلال رأس القلم عند مستهل الفراغ الضيق المتبقي أمام سيل الكلمات المعزِّية المنهاله حول الفراغ بخطوط مختلفة, وبدأ يكتب:
(تاميلا.. لقد اسفت لمصابك..) ثم توقف عن الكتابة وسألني: "ما اسم كلبها؟
"تشارلي.."
ثم تابع:
(وحزنت كل الحزن لفقدان كلبك تشارلي.. منكِ الصبر يا تاميلا.. ومنا السلوان.. مع حبي... طلال)

المراجع

موسوعة القصة السورية

التصانيف

الادب