حذَّر هانتنجتون ، الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة ، من ابتكار الاعداء الجدد ، فهي لا تستطيع ان تبقى عاطلة عن مثل هؤلاء الاعداء ، لكنها لم تسمع من هذا الرجل ومن فوكوياما ايضا غير النصف الاول مما قالاه ، سواء عن نهاية التاريخ او صراع الحضارات ، وما ينطبق على امريكا لا تشذ عنه دول العالم كلها ، فما ان ينتهي صراع ما حتى تبدأ الدولة المتقاعدة في قضم نفسها واحشائها من الداخل ، اذ لا بد من عدو بديل وثمة دول قُيض لها من العلماء والمفكرين والناشطين من ينبهون الى مثل هذه الحالة ، لكن اغلب دول العالم خصوصا في جنوب الكرة الارضية تقع فريسة لنفسها اولا.

انها مسألة الطاقة والحيوية الباحثة عن متنفس موضوعي ، لانها بدونه تتراكم وتتفاقم كي تنتفض على نفسها ، وبهذه الرؤية يمكن استقراء مشاهد عربية على اختلاف درجات البطالة والحراك ، فلم يكن لمباراة في كرة القدم مثلا ان تتحول الى حرب بديلة لولا الفراغ الذي خلفه تجميد الصراع في سياقه التاريخي وما كان لابطال ونجوم من ورق ان يحلوا فكانوا رموزا وطنيين ومثقفين فاعلين لولا ان الكاميرا انصرفت الى الجهة الاخرى ، فلم يعد ما قاله المتنبي قائما وهو ان النفوس الكبار اهون ما تمر به هو الوصول والنفس الصغيرة او الانسان الترانزستور كما تصوره ويلهالم رايتس يرضى بالضرورة بديلا للحرية ، ويعيش ليأكل وليس العكس ، وتصغر آماله بحيث ، تنتهي الى مأوى ورغيف وبأي ثمن حتى لو كان ماء الوجه والكرامة الادمية،.

ان فلسفة اختراع الاعداء البدائل هي في الصميم من هذا العصر الذي خلطت فيه الاوراق وتميعت فيه المفاهيم ، حتى سالت على بعضها ، فلم تعد هناك حدود ولو تقريبية لاي مفهوم ، وكأن نبوءة جورج اورويل الشهيرة في روايته 1984 قد تحققت لكن ليس في المكان الذي تخيله وهو النطاق الشيوعي ، فالرأسمالية الان تتفنن في ابتكار نظم شمولية انتهاكية ، لان الدولة تزداد كثافة والفرد يزداد شفافية ، وهذا ايضا ما تبنأ به الروائي ميلانو كونديرا وريث كافكا وكوابيسه.

ما الذي سوف يفعله البشر اذا وجدوا انفسهم في مواجهة بعضهم وذويهم وقد حرموا من المشاركة في صراع وجودي يخصهم ، ويتحكم حتى بمصائر احفادهم،.

في التجارب التي اجريت على عالم الحيوان ، اتضح ان غياب العدو التقليدي يدفع هذه الكائنات الى اختراع اعداء من صلبها ، وما يقال عن دور اللعب بمختلف مستوياته ومتطلباته من الذكاء ، قد يصلح بالفعل متنفسا للطاقة الفائضة ، بحيث يحقق اللاعبون انتصارات بريئة وبلا دماء ، لكن اللعب ايضا اصبح شيئا اخر بعد ان تم توظيفه كبديل للحروب والمصطلحات التي تستخدم الان في المباريات مستعارة من قاموس الحرب. ويبدو ان المجتمعات التي تستسلم لحالة الاستنقاع والمراوحة والبطالة التاريخية قدرها ان يأكل الناس فيها بعضهم وانفسهم ايضا،.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خيري منصور   جريدة الدستور